مع غياب هنري كيسنجر عن 100 عام، من المفيد استعادة تجربته مع لبنان ودوره بالسماح للنظام السوري بوضع يده عليه طوال سنوات. كان ذلك في مرحلة معيّنة لم يستطع فيها السياسيون اللبنانيون إدراك ما يدور في المنطقة من جهة وإستيعاب خطورة الوجود الفلسطيني المسلح من جهة أخرى.
جاء الدخول العسكري السوري عن طريق تفاهم إقليمي سوري – إسرائيلي جرى برعاية كيسنجر. أدّى التفاهم إلى إنتشار القوات التابعة للنظام السوري الأراضي في معظم أنحاء البلد في العام 1976 تحت تسمية “قوات الردع العربيّة”.
تكشف معلومات مستقاة مباشرة من الديبلوماسي الأميركي الوحيد الذي رافق المبعوث الأميركي دين براون إلى بيروت أن الهدف الأساسي لمبعوث كيسنجر كان شراء الوقت.
قال كيسنجر لمبعوثه قبل مغادرته واشنطن بالحرف الواحد: “اخلق ما أمكن من دخان كي يتكوّن إنطباع بأن هناك حركة ديبلومسية أميركيّة” في لبنان. في الواقع، كان وزير الخارجية الأميركي يريد وقتاً للتفكير في كيفية الحؤول دون تحوّل الحرب الداخلية اللبنانية إلى نزاع إقليمي تتورّط فيه إسرائيل.
إستناداً إلى الرواية الوحيدة ذات العلاقة بالحقيقة عن مهمّة دين براون الذي ارسله كيسينجر إلى بيروت قبل الدخول السوري، لم يكن وزير الخارجية الأميركي الراحل ينظر إلى لبنان سوى من زاوية إقليمية. في أواخر العام 1975 إكتشف كيسنجر، الذي كان وقتذاك منشغلا في معالجة ذيول مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من فيتنام، أن أحداث لبنان تثير مخاوف من حرب إقليمية بسبب الوجود الفلسطيني المسلّح فيه.
اندلعت الحرب اللبنانية في 13 نيسان – ابريل 1975. في الثلاثين من الشهر نفسه، غادر آخر جندي أميركي فيتنام. جعل ذلك وزير الخارجية الأميركي غارقا في تفاصيل ملفّ الهزيمة التي لحقت ببلده في فيتنام. كان كيسنجر، إستنادا إلى الديبلوماسي الأميركي الذي كلّف الذهاب مع دين براون لتسجيل محاضر لقاءاته، يبحث عن مخرج يعفي أميركا من مواجهة أزمة دولية أخرى تأخذ شكل حرب شرق أوسطية جديدة. وجد ضالته بعد مرور أسابيع عّدة عندما استطاع الوصول إلى تفاهم سوري – إسرائيلي يدخل بموجبه الجيش السوري كلّ الأراضي اللبنانية ويضع يده على “القواعد العسكرية التابعة لمسلحي منظمة التحرير الفلسطينيّة”. لم يكن الملك حسين، الذي توفّى في العام 1999 بعيدا عن التفاهم السوري – الإسرائيلي، بل ساعد كيسينجر في التوصل إلى هذا التفاهم الذي كان حافظ الأسد يطمح إليه…
استناداً إلى الديبلوماسي الأميركي الذي كان يسجّل محاضر اللقاءات، تنفّس دين براون الصعداء، وانصرف معتبراً أنّ مهمتّه، التي لم يأتِ فيها على ذكر تهجير المسيحيين وتوطين الفلسطينيين في لبنان، انتهت. لم تمض أيّام إلّا ويستدعي كيسينجر دين براون مجدّداً، فحضر مع مساعده إلى الخارجية الأميركيّة. أبلغهما أنّ تعديلات طرأت على الخطة الأصلية لدخول الجيش السوري إلى لبنان، وأنّ إسرائيل رسمت خطوطاً حمر للسوريين، وأنّها لن تسمح للجيش السوري ببلوغ خطّ الهدنة على الحدود بين لبنان وإسرائيل، بل سيبقى المسلحون الفلسطينيون في الجنوب. يتذكّر الديبلوماسي الأميركي، الذي التقيته طويلا، أنّ دين براون سأل وزير الخارجية عن سبب التغيير في الموقف الإسرائيلي؟ أجابه كيسنجر أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين يفضّل ذلك من منطلق أنّ “إسرائيل في حاجة إلى الاشتباك مع الفلسطينيين بين وقت وآخر”.
هذه رواية شخص حيّ يرزق تشرح بالتفاصيل المملّة ما حصل مع دين براون في لبنان الذي عاد إليه مرّة واحدة بعد ذلك إثر خطف عناصر من “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، بطلب من معمّر القذّافي، السفير الأميركي في بيروت فرنسيس ميلوي تمهيداً لاغتياله.
تختزل هذه الرواية قصة هنري كيسنجر مع لبنان. لم يكن مهتما سوى بالإستقرار الإقليمي والمضي في ما هو أبعد من لبنان، أي في تحقيق السلام المصري – الإسرائيلي. الدليل على ذلك أنّ معاهدة السلام المصريّةّ – الإسرائيليّة وقعت في آذار – مارس 1979). كان كيسينجر خارج السلطة، لكنّه لعب دوره في التأسيس لواقع جديد في الشرق الأوسط قائم على الواقعية السياسيّة بغض النظر عمّا يحلّ ببلد صغير لا يعرف أبناؤه أين تكمن مصلحتهم. هذا الواقع لم يفهمه معظم السياسيين اللبنانيين يوما، خصوصا آولئك الذين اخترعوا رواية مجيء دين براون لتهجير المسيحيين من البلد.
غاب هنري كيسنجر. بقي أنّ اللبنانيين، في معظمهم، لم يتعلّموا شيئا من الثمن الذي دفعه بلدهم، ولا يزال يدفعه إلى يومنا، بسبب وجود سلاح غير شرعي غير سلاح الجيش اللبناني، مثل سلاح ميليشيا مذهبيّة تابعة لإيران إسمها “حزب الله”. ورث هذا السلاح الإيراني السلاح الفلسطيني لا أكثر وذلك منذ سمح النظام السوري، إبتداء من 1982 بالتسلل الإيراني المسلّح إلى الإراضي اللبنانية بشكل تدريجي!
في النهاية، يتعاطى العالم مع الواقع كما هو وليس مع روايات يختلقها هذا السياسي اللبناني أو ذاك ويرويها لنفسه ثمّ يصدّقها ويجعل آخرين يصدّقونها… ثمّ يلعن هنري كيسنجر واميركا!