طويت “المرحلة الأولى” من عملية استهداف رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام اوغلو، وذلك في ظلّ المؤشرات التالية:
1- إيداع إمام أوغلو سجن “سيليفري”، وتجريده من كل مناصبه، ولا سيما رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى.
2- انتخاب خلف له من قِبَل أعضاء مجلس البلدية، هو نوري أصلان.
3- إعلان زعيم “حزب الشعب الجمهوري”، أوزغور أوزيل، إنهاء عمليات التجمّع اليومية أمام بلدية إسطنبول، والانتقال إلى تجمّعات متفرّقة من وقت إلى آخر، أعطى موعداً أولَ لها السبت المقبل في ساحة مالتيبه.
وفي حسابات الربح والخسارة، يعني ذلك:
1- أن الهدف الأساسي من مجمل العملية، كان اعتقال إمام أوغلو وإيداعه السجن بتهم سبع، وعزله عن رئاسة البلدية، وقطع الطريق عليه منذ الآن للترشّح في وجه الرئيس التركي الحالي، رجب طيب إردوغان، في حال نجح هذا الأخير في تعديل الدستور، ليتاح له الترشّح مجدّداً عام 2025. وسيكتمل الانقلاب السياسي الذي نفّذه رئيس الجمهورية، إذا ما حكم القضاء على إمام أوغلو بالسجن لمدة لا تقلّ عن ثلاث سنوات، ما يحول نهائيّاً دون إمكانية ترشّح هذا الأخير للرئاسة عن “حزب الشعب الجمهوري”.
2- نجح حزب المعارضة الرئيسي في إحراج الرئيس التركي أمام الرأي العام المحلّي والعالمي، وتظهير ما فعله على أنه انقلاب سياسي ومدني ضدّ الديمقراطية والحريات، كما في إظهار المؤسسة القضائية على أنها “غبّ طلب” السلطة السياسية، ما يفترض أن تكون له انعكاسات سياسية لمصلحة المعارضة في أول انتخابات مقبلة.
3- نجح الحزب في إحداث بلبلة داخل “العدالة والتنمية” من خلال انتقادات وُجّهت إلى إردوغان، على خلفية الإجراء الذي اتّخذه، إذ كان من أبرز المنتقدين، الرئيس السابق عبدالله غول، ورئيس الحكومة والحزب السابق أحمد داود أوغلو.
3- نجح الحزب في شدّ عصب أنصاره في مواجهة الضربة الثقيلة التي تلقّاها بـ”شطب” إمام أوغلو، مبدئيّاً، من المعادلة السياسية، وهو الزعيم الوحيد الذي هزم مرشّح إردوغان ثلاث مرات، وكانت أمامه فرصة هزيمة هذا الأخير في الانتخابات الرئاسية.
4- نجح “الجمهوري” في إعادة توحيد المعارضة من جديد، وإنْ كان من المبكر الحديث، منذ الآن، عن مدى استمرار الزخم الحالي، حتى الانتخابات المقبلة.
5- نجح الحزب في منع السلطة من تعيين شخصية موالية لها في رئاسة بلدية إسطنبول، وفي الدعوة إلى إجراء اقتراع، أمس، لانتخاب بديل من إمام أوغلو من بين أعضاء المجلس البلدي الذي يربو عديده على 314 عضواً، ويمتلك “حزب الشعب الجمهوري” أكثريته الساحقة (185 عضواً). وانتخب المجلس، نوري أصلان، عن “الشعب الجمهوري”، بالغالبية المطلقة في الدروة الثالثة، بعدما فشل أيّ مرشّح (ومن بينهم خصوصاً مرشّح السلطة زين العابدين) في الحصول على الأصوات اللازمة للفوز؛ علماً أن أصلان (مواليد سيواس 1969) شغل منصب نائب إمام أوغلو، الذي عيّنه رئيساً للبلدية بالوكالة ليتولّى مهامّه طيلة فترة غيابه.
وبعد مرور “الأيام السبعة التي هزّت تركيا”، تتوجّه الأنظار إلى الخطوات التي سيتّخذها “حزب الشعب الجمهوري” في المرحلة المقبلة، حيث سيواصل الحزب، من وقت إلى آخر، مهرجاناته الشعبية، كونه يراها وسيلةً لتعرية النظام القائم. وفي تصريحات إلى صحيفة “جمهورييات”، قال أوزيل إن الحزب “سيدفع إلى إجراء انتخابات رئاسية ونيابية مبكرة”، بينما يواصل معركته القانونية لإطلاق سراح إمام أوغلو، وإنْ كانت التجارب السابقة تؤشّر إلى معركة خاسرة مقبلة، في ظلّ تبعية القضاء الكاملة للسلطة السياسية.
وربّما أدرك الحزب مسبقاً، أن نهاية إمام أوغلو باتت واقعاً، وأنه سينضمّ إلى آخرين، من مثل صلاح الدين ديميرطاش المسجون بتهم دعم الإرهاب منذ عام 2017، حين كان رئيساً لـ”حزب الشعوب” الكردي. ويجعل ذلك من المهرجانات التي أقامها الحزب في الأيام التي تلت اعتقال الرجل، وفي قادم الأيام، فرصةً لحسابات ما بعد الاعتقال، أكثر منها للأمل في إنقاذ الرجل.
السياسة في تركيا، كما كان يقول سليمان ديميريل، “كل يوم بيومه”
أيضاً، تبرز على سطح الأحداث مسألة الشخصية التي يمكن الحزب ترشيحها للانتخابات الرئاسية المقبلة. وفي هذا الإطار، يتصدّر المشهد اسم رئيس بلدية أنقرة، منصور ياواش، الذي هَزم بدوره مرشّح إردوغان مرتين في رئاسة بلدية أنقرة، عامَي 2019 و2024، وبفارق ضخم بلغ 60% مقابل 30%؛ وظلت استطلاعات الرأي تعطيه نسبة مئوية تقارب ما كان يحصل عليه إمام أوغلو، وأيضاً أفضلية في الفوز على إردوغان في الانتخابات الرئاسية، في حال كان هو مرشّح “الشعب الجمهوري”. مع ذلك، فإن رئيس الحزب، أوزغور أوزيل، الذي خلف كمال كيليتشدار أوغلو في زعامة “الجمهوري” في نهاية عام 2023، لم يقدّم حتى الآن نفسه مرشحاً للرئاسة، مخلياً الساحة أمام إمام أوغلو وياواش.
لكنّ اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، أظهر الدور المحوري الذي لعبه أوزيل في التحشيد والتصريحات، بحيث بدا كما لو أنه يقدّم نفسه ربّان السفينة الأول للحزب، في ما يمكن أن يشكّل عامل ضغط على ياواش في حال قرّر رئيسه، أن يكون هو المرشّح. وإلى حين تحديد اسم مرشح الحزب للرئاسة، سيكون في مقدّمة أولوياته، محاولة منع إردوغان من تعديل الدستور وألّا يكون بالتالي مرشحاً للرئاسة، وهو ما يتطلّب أولاً وأخيراً إقناع الحزب الكردي بعدم تأييد التعديل، الذي لا يمكن أن يتمّ من دون أصوات نوابه.
باختصار، ارتاح إردوغان من إمام أوغلو؛ والسياسة في تركيا، كما كان يقول سليمان ديميريل، “كل يوم بيومه”. ولكنّ التجارب تبيّن أن أكمام إردوغان لا تخلو من الأرانب ضدّ معارضيه، فيما تهم “دعم الإرهاب” و”الفساد”، تظلّ جاهزة؛ فما سرى على ديميرطاش وإمام أوغلو ورؤساء بلديات كبرى، قد يسري على ياواش أو أوزيل، على قاعدة ميكيافيللي: “الغاية تبرّر الوسيلة”. وكان إمام أوغلو وجّه من سجنه الجديد نداءً بخطّ يده، جاء فيه: “في هذه الأيام التي نضيء فيها نور نضالنا العظيم جداً، وبقوّة الملايين من شعبنا، سيشرق هذا النور بفضل أمّتنا، على وطننا ويدفئ 56 مليوناً بحرارته. أملنا عالٍ وشجاعتنا لا نهاية لها. سننجح”.
وأكّد أوزيل، بدوره، في آخر خطاب له، أن ما يقوم به الحزب هو تحدٍّ للفاشية، مضيفاً أنه سيقاتل إلى النهاية. وقال: “إنهم يراهنون على أنّنا سننتفض في اليوم الأول، ومن ثم ننسى ونتفرّق. إنهم يبيعون البلد للمنتفعين. سيفتح مضيقاً آخر وقناة إسطنبول لبيع الأراضي التي تحيط بها للقطريين. ومن لا يعجبه، سيطعنونه بالسكين في قلب إسطنبول”. ورأى أن “تحالف الشرّ سيُهزم. ولا نريد تحويل تركيا إلى سوريا أو أفغانستان أخرى. تركيا علمانية وستبقى علمانية”.