ثماني سنوات. كانت ملء العين والخاطر. لا يُماثل محمّد بن سلمان غيره في كلّ أحواله. وعلى سجيّة من يطلب المجد يصبر عليه. صبر الرجل واجتهد وراكم حتّى نال. وكان نيله واسع القدرة على إبداع التحقيق.

 

نشر تركي الدخيل، المبدع بحثاً في مناهل النصوص والمقلّ كتابة في “الشرق الأوسط”، مقطعاً من حوار أجراه المؤرخ أمين الريحاني مع الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، ونشره في كتابه “ملوك العرب”، الذي صدر عام 1925. لاحظ الريحاني أنّ أبياتاً من الشعر تُكتب في مجالس نَجد، وعلى مداخل القصور، منها بيتان، قال إنّ فيهما مزيجاً من الحكمة ومن الخطل.

وأكمل فقال: قرأت مرة في حضور السلطان ما كُتِب فوق بابه:

” لسنا وإن كرمت أوائِلُنا

يوماً على الأنساب نتكل”

جاء مغلوطاً مبنى لا معنى، فقلت، والمعنى ما يهم: ليس أشرف منه مبدأ يا مولاي، ولا أجمل منها حكمة! وإني أجلُّكم وأحترم أهل نجد، لأنّهم يعملون بها، ولأنّ السيادةَ والمجد في بيت آل سعود نشأ عنها.

ولكن البيت الثاني يا مولاي:

“نبني كما كانت أوائِلُنا

تبني ونفعل مثلما فَعلُوا”

ها هنا الخطل، وإننا إذا تساهلنا في تحليل البيت وتفسيره، نسلّم بنصفه. إذ لا أظن أنّنا نستطيع نبْذ الماضي كلّه بحذافيره، فلا بأس أن نبني كما كانت تبني أوائلُنا، ولكن… فقاطعني قائلًا: “نحن نبني يا حضرةَ الأستاذ كما كانت تبني أوائلُنا، ولكنَّنا نفعل فوق ما فعلُوا. وأمر الملك بتعديل البيت.

لا يزال وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في ناصية الطريق، لكنّه يفعل فوق ما فعلوا على خطى المؤسّس. حين طرح رؤيته المهولة تحت عنوان 2030، ظنّت الكثرة الكاثرة أنّها أحلام من قماشة الخيال، لتعود وتدرك أنّ ما بعد هذا الرجل، لن يكون أبداً كما قبله.

شهدت المملكة العربية السعودية تحت قيادة محمّد بن سلمان تحوّلات اجتماعية كبيرة وسريعة جدّاً
السعوديّة صارت اليوم قلب العالم، وفي يد وليّ عهدها نسخة مستحقّة من مفتاح القرن الجديد على خطى المؤسّس. إليها تحجّ الدول والإمبراطوريّات وصنّاع القرار. وتحت رعايتها يجلس العدو ويجلس الصديق. على طاولتها تحضر أكثر الملفّات دسماً وتعقيدًا وحساسية، في بعضها صواعق انفجار قد تُشعل حروباً كونية تُدمر الكوكب برمّته، وفي بعضها الآخر استعصاء تاريخيّ مستدام، فاق قدرة الكبار على تفكيكه أو حلّه.

سنوات قليلة جدّاً، ليست تُشكّل إلّا أجزاء من الثانية في عمر الدول، كانت كافية لإحداث انفجارات متتالية وغير مسبوقة أو متوقّعة. انتقلت المملكة العربية السعودية من ضفّة إلى أخرى، وتحوّلت بسرعة الضوء إلى واحدة من الدول الوازنة والمؤثّرة، ليس على صعيد المنطقة وحسب، بل على مساحة العالم برمّته، وهذا ما تؤكّده الأرقام والإثباتات والوقائع، حيث إنّها الدولة الشرق الأوسطيّة الوحيدة التي استطاعت أن تستضيف زعماء الولايات المتّحدة والصين وروسيا في غضون أشهر قليلة، بالإضافة إلى أدوار محورية ومتقدّمة في حلّ الأزمة الأوكرانية، وفي إعادة ترتيب العلاقات بين أميركا وروسيا، بما في ذلك صفقات لتبادل الأسرى بين البلدين، ولعبت أدواراً مركزية لحلّ الصراع التاريخي بين إثيوبيا وإريتريا من خلال “اتفاقية جدّة للسلام”، ودورًا مماثلاً في ترسيم الحدود اللبنانية السورية عبر اتفاق تاريخي وغير مسبوق بين البلدين، بالإضافة إلى حل أزمات السوادن واليمن، واحتضان لبنان بعد الحرب المدمرة، وسوريا بعد سقوط النظام وهروب بشار الأسد.

راية العرب أجمعين

في مقدَّمة هذا كلّه، برز الموقف الراسخ من قضيّة فلسطين، وقد بدا أن المملكة لا تُناور ولا ترفع سقوفها، بقدر ما تؤكّد سياسة ثابتة وشديدة الوضوح، وقد سعت من خلالها إلى تجييش الرأي العام الدولي ضدّ ممارسات إسرائيل بحقّ الشعب الفلسطيني، وتمسّكت بحلّ الدولتين معبراً وحيداً لأيّ سلام مفترض، وهذا ما جعلها تحمل راية العرب أجمعين، وتتقدّم كلّ صفوفهم، وقد امتلكت القدرة على رفض كلّ مشاريع التهجير، والصمود بوجه الضغوطات الهائلة التي مورست عليها، وعلى مصر والأردن.

لا يزال وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في ناصية الطريق، لكنّه يفعل فوق ما فعلوا على خطى المؤسّس
منذ تعيينه وليّاً للعهد في عام 2017، قاد محمد بن سلمان تحولاً كبيرًا في المملكة من خلال رؤية 2030، وهي خطّة طموحة تهدف إلى تنويع الاقتصاد السعودي وتقليل الاعتماد على النفط، إلى جانب تعزيز مكانة المملكة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وترتكز على ثلاثة محاور: مجتمع ديناميكيّ، واقتصاد مزدهر، وأمّة طموحة. فيما قاد حملة متوازية واسعة النطاق لمحاربة الفساد في المملكة، وقام بإصلاحات داخلية لضمان مزيد من الكفاءة والشفافية في الإدارة العامّة.

بن سلمان

ساهمت رؤية 2030 في تطوير قطاعات جديدة مثل السياحة، والترفيه، والصناعة، والتكنولوجيا. ومن خلال هذه الرؤية، تمّ إنشاء صندوق الاستثمارات العامّة الذي أصبح واحداً من أكبر الصناديق السيادية في العالم. وتمّ إطلاق العديد من المشاريع الضخمة، بالإضافة إلى خصخصة بعض الشركات الحكومية الكبرى، مثل شركة أرامكو التي طرحت جزءاً من أسهمها للاكتتاب العامّ، فتدفّقت استثمارات هائلة.

تصدّرت المملكة قائمة الأمم المتحدة في نسبة نموّ عدد السياح الدوليين، وقائمة دول العشرين في مؤشّر نسبة نموّ إيرادات السياحة، والمركز الأوّل عربيّاً في المؤشّر العالمي للذكاء الصناعي، والأوّل عالميّاً في معيار الاستراتيجية الحكومية للذكاء الصناعي، علاوة على فوز مستحقّ في استضافة التظاهرات الدولية الكبرى، بدءاً من إكسبو 2030، وصولاً إلى بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2034.

أقوى الرّجال في العالم

حازت المملكة المرتبة الأولى عالميّاً في مؤشّر “إيدمان” لثقة المواطنين بحكومتهم، والثانية عالميّاً في مؤشّر التحوّل التقني للشركات، والرابعة في مؤشّر الأمم المتحدة لتطوّر الحكومة الإلكترونية والخدمات الرقمية، علاوة على استقطاب كبريات الشركات العالمية التي نقلت مقرّاتها إلى السعودية، وقد تخطّى عددها 600 شركة حتّى أواخر العام الماضي، بالإضافة إلى إصدار أكثر من 14 ألف ترخيص استثماري خلال العام الجاري، فارتفع إجمالي عدد التراخيص الفعّالة إلى أكثر من 40 ألفاً.

ثماني سنوات. كانت ملء العين والخاطر. لا يُماثل محمّد بن سلمان غيره في كلّ أحواله. وعلى سجيّة من يطلب المجد يصبر عليه
شهدت المملكة العربية السعودية تحت قيادة محمّد بن سلمان تحوّلات اجتماعية كبيرة وسريعة جدّاً. أتاح للمرأة السعودية المزيد من الحرّية والمشاركة في الحياة العامّة، فأصبحت المرأة تشغل مناصب قيادية في مختلف القطاعات، بما في ذلك الوزارات والشركات الكبرى. وتمّ تقليل القيود المفروضة على أنشطة الترفيه، فتمّ السماح بإقامة الحفلات الموسيقية والفعّاليات الثقافية، وافتتاح دور السينما لأوّل مرّة منذ عقود.

ذكرت صحيفة “إكسبرس” الفرنسية أنّ محمد بن سلمان أصبح، منذ بلغ من العمر 29 عاماً، واحداً من أقوى الرجال في العالم، وهذا ما أثار دهشة الجميع، وفاق كلّ التوقّعات، حتّى إنّ الاستخبارات الأميركية لم تكن تتوقّع صعوده، ووجب عليها تحديث ملفّاتها بشكل عاجل. ولذلك كان أوّل زعيم عالمي يتلقّى اتّصالاً من البيت الأبيض، عقب تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

إقرأ أيضاً: السّعوديّة تسحب لبنان من مستنقع الشّرق إلى أوروبا الجديدة

ربّما وجد محمد بن سلمان ضالّته في القصّة الملهمة للإسكندر المقدونيّ الكبير، الذي سعى إلى الوصول إلى نهاية العالم، وقد أسّس إحدى أكبر وأعظم الإمبراطوريات التي عرفها العالم القديم وهو لا يزال في عقده الثالث. وللمفارقة، وربّما لحكمة في التاريخ، فإن هذا كلّه تبلور عقب كسره للإمبراطورية الفارسية الأخمينية، وتحطيم قوّتها العسكرية، والإطاحة بالشاه دارا الثالث، حيث دحرهم تماماً خارج آسيا الوسطى، ثمّ شرع في انتزاع ممتلكاتهم التي سيطروا عليها واحدة تلو الأخرى.