1

يحتوي العديد من المنسوجات والألبسة على رموز مرئية تشير بشكل صريح أو بشكل ضمني إلى مجموعة واسعة من العوامل الثقافية والاجتماعية. إذ أنّ الأقمشة المُستخدمة، وأشكال قطع الملابس، وألوان الصبغة، وموضع أنماط التطريز ومداها، تساهم جميعها في قدرة الملابس على نقل معلومات حول مرتديها، مثل الجندر والعمر والنضج الجنسي، والحالة المدنية والمهنة والثروة، والانتماء القبلي والالتزام الديني. كما يمكن أن تدلّ المنسوجات على الهوية الإقليمية ونمط حياة الشخص، حضريا أو رعويا أو بدويا. بعض المنسوجات عبارة عن مؤشّرات على احتفالات سعيدة، مثل الولادات والزواج، بينما يرمز بعضها الآخر إلى الحداد والموت.
ويتضمن مجلد «حياة قماش» الصادرة ترجمته للعربية عن دار المحيط، تأليف فهميدة سليمان، وترجمة يسرى مرعي، على أكثر من مئتي قطعة من المنسوجات من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، التي اختِيرت من مجموعة المتحف البريطاني الشهيرة، التي تضمُّ حوالي ثلاثة آلاف قطعة من المنطقة: ملابس رجالية ونسائية وملابس أطفال، وقبعات وأغطية رأس وستائر المساجد وسجادات صلاة، وأغطية أرضيات، وتعليقات الخيم، ومناشف يد ووسائد وأكياس تخزين، ومحافظ وحقائب مستحضرات تجميل، ودمى وهدايا تذكارية وزخارف حيوانات، وتمائم وأعمال فنية حديثة ومعاصرة. ويغطي المجلد أكبر عدد ممكن من البلدان والمناطق.

غالباً ما كانت اللوحات الاستشراقية الغربية، وصور البورتريه والبطاقات البريدية من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ترسّخ الأسطورة التي تقول إنّ الملابس من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى هي في الأساس ملابس غير مرتبطة بزمن معين، تتألف من بعض العناصر الأساسية من الملابس وأغطية الرأس، وغالباً ما تكون متشابهة من منطقة إلى أخرى. في حين تؤكد مؤلفة الكتاب إلى أنّ الموضة قد تغيرت في كل مكان عبر الزمن، والمنسوجات في هذا الكتاب هي منتجات لفترات وأماكن تاريخية معينة، لمحات عن زمان ومكان صنعها. وقد رتّبت المنسوجات المعروضة وفقاً للموضوع، وليس تبعاً لمنشئها أو لفئة الملابس. وهو ما سمح بإجراء مقارنات عبر المناطق المختلفة، من ناحية وظيفة المنسوجات وأهميتها ومعناها الرمزي في حياة الناس. فكل فصل من الفصول الخمسة الأولى للكتاب يتعلق بمرحلة أو جانب من حياة الشخص، تحتلُّ فيه المنسوجات مكاناً بارزاً: الطفولة، والزواج والاحتفال، المكانة والهوية، والدين والمعتقد، والمنزل والمسكن.
وبالتوقف عند مرحلة الطفولة، نرى أنه قد استُخدِمت منسوجات عديدة في طقوس العبور، مثل الختان، الذي يعني تقليدياً في المجتمعات الإسلامية التحوّل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الصِبا. اعتبر الطربوش الأحمر مع العملات المعدنية والشرابات المُذهّبة من فلسطين القرن التاسع عشر مثالاً ممتازاً، وكان يرتديه الصبي حين يُعرضُ في القرية، ممتطياً حصاناً أو جملاً، ومُرتدياً ملابس باهظة الثمن. وتقليد عرض الصبي في أنحاء المدينة للإعلان عن حفل ختانه، لا يزال ممارساً في تركيا المعاصرة، ولو أنّ وسيلة النقل المفضّلة تغيرت لتصبح سيارة فاخرة.
كما اتّسم الانتقال من مرحلة الصبا للفتيات إلى مرحلة البلوغ، باستخدام ملابس معينة. ففي المناسبات الاحتفالية في ولاية صور، في المنطقة الشرقية بسلطنة عُمان، على سبيل المثال، ارتدت في ما مضى الفتيات غير المتزوجات شالات رأس خاصة (الكمة) للدلالة على أنهن قد بلغن سن الزواج. وبشكل مماثل، شكّلت القبعات وأغطية الرأس، في ما مضى، علامات تدلُّ على العمر، والحالة المدنية في كل من الثقافتين التركمانية والقيرغيزية في إيران وآسيا الوسطى، بينما كانت الطاقيات المُطرّزة مُخصّصة ليرتديها الأطفال والفتيات غير المتزوجات فحسب. وما أن تتزوج، تُمرِّرُ امرأة في جنوب قيرغيزستان طاقيتها بطريقة طقوسية إلى أختها الصغرى غير المتزوجة، أو إلى أخت زوجها، وتتّخذ لنفسها قبعة ذات جزء خلفي أطول مطرّز يغطّي ضفائر شعرها.

في فصول أخرى من المجلد نقف عند إيران خلال عهد الحاكم القاجاري ناصر الدين شاه (حكم من 1848 إلى 1896). إذ غدت التنانير، على الرغم من ضخامتها وكثافتها، أقصر بشكل تدريجي على مدار القرن التاسع عشر، إلى أنّ قدّم الشاه نفسه نسخة معدّلة من تنورة التوتو في أعقاب زيارته لعرض باليه في باريس في عام 1873. كما نرى كيف أن الزرادشتيين، الذين عاشوا في إيران القاجارية، ومثل الأقليات الدينية الأخرى، كانوا مطالبين بتحديد هويتهم من خلال اللباس. وقد سُمِح للرجال الزرادشتيين، على وجه الخصوص، بارتداء الملابس الصفراء والبنية والحنطية فحسب، والسراويل ضيقة وليست فضفاضة، والعمامات الملفوفة بدلاً من المطوية. في المقابل نرى كيف فرضت أزياء القصر العثماني تغييرات في أنماط اللباس في مجتمع إسطنبول، وهذا ما أثّر، بدوره، على التحولات في الذوق في مناطق حضرية أخرى في الإمبراطورية العثمانية. ولم يعكس اختيار الأقمشة وكثافة التطريز والزخرفة على الملابس الوضع الاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل غالباً ما شكّل مؤشّراً على الهويات الإقليمية والإثنية.

غطاء الرأس
نعثر في المجلد على مجموعة متنوعة من أغطية الوجه النسائية من القرن التاسع عشر إلى القرن الحادي والعشرين من مناطق متعددة في شبه الجزيرة العربية. ولا يمكن النظر في أغطية الرأس والوجه في العالم الإسلامي بشكل منفصل، أو كظاهرة سياسية حديثة، بل هي «أجزاء من البنية الإجمالية للمظهر الشخصي… (والتي) يتم التلاعب بها بوعي لتأكيد وتمييز الاختلافات في المكانة والهوية والالتزام». يغطي العديد من الرجال والنساء، كما جرت العادة، في العالم الإسلامي رؤوسهم، بغضّ النظر عن انتمائهم الديني. وينطبق هذا بشكل خاص على القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. وتسلّطُ مجموعة من ثماني عشرة قبعة نموذجية من فلسطين، الضوء على مدى تعقيد وتنوّع أغطية الرأس التي كان يرتديها الرجال الريفيون والحضريون في هذه المنطقة حتى ثلاثينيات القرن العشرين. وفي هذا السياق، شكّلت الاختلافات في أغطية الرأس الرجالية علامات على العمر والانتماء الديني والطبقة الاجتماعية والمهنة.
وحتى اعتماد الملابس الأوروبية بشكل واسع في تركيا في أواخر الفترة العثمانية، عادة ما ارتدى الرجال والنساء الحضريون من جميع الأديان والطبقات الاجتماعية ثلاث قطع ملابس أساسية: إنتاري يصل طوله إلى الكاحل، أو إلى الأرض، أو قفطان بأكمام طويلة، ويُرتدى فوق قميصة (غومليك) وسراويل فضفافة (شالفار). كانت تُضاف طبقات أخرى، اعتماداً على الطقس والمناسبة، مثل الصدريات (يَلَك)، أو إنتاري إضافي، أو سترات قصيرة (جيبكَن) ومعاطف بأطوال مختلفة. أما الأحزمة ذات الأبازيم المليئة بالتفاصيل الدقيقة والأوشحة (ساش) المُطرّزة، فقد منحت الصدر والوركين والخصر رونقاً. وهذا الأوتش إيتك (تنورة ثلاثية) إنتاري، له فتحة أمامية وشقوق جانبية طويلة، مما يقسمُ التنورة إلى ثلاثة أجزاء. والشجرة المُزهرة المُطرّزة بخيوط حرير وخيوط مُغلّفة بالفضة على الغومليك (القميصة، في الصفحة المقابلة) تُلمَحُ ببراعة عبر الإنتاري.
خلال الفترة العثمانية والانتداب الفرنسي، كانت دمشق وحلب وحمص من كبار مُنتجي ومُصدّري المنسوجات. ومن ثلاثينيات القرن العشرين فصاعداً، أصبحت الأقمشة المستوردة المصنوعة آلياً، بما فيها التوبيت والساتان، ذات شعبية متزايدة، وصارت تُطرّزُ باستخدام قماش كانفاس (قماش الماركة) وخيوط قطنية، مُعالجة بالمرسرة (معالجة كيميائية لجعلها أكثر لمعاناً ومتانة). في عام 1826، أجرى السلطان محمود الثاني عملية إعادة هيكلة دراماتيكية للحكومة وللجيش العثماني، وكجزء منها، فرض قواعد لباس أوروبية. ألغيت العمامة وحلّ الطربوش محلّها. وقد سمح غطاء الرأس الحديث هذا للرجال المسلمين بانحناء رؤوسهم إلى الأرض خلال الصلاة، على عكس القبعة ذات الحواف والأقل شعبية التي استُخدِمت في عام 1925.

المنسوجات والسياسة
وقد استُخدِمت المنسوجات الفاخرة بوصفها رموزاً بارزة للمكانة وللقوة الإمبراطورية على مدار التاريخ. إنّ إدخال الخليفة هشام للحواف المنسوجة والمطرزة بنقوش عربية على الأقمشة الملكية، دشّن بداية نوع جديد من المنسوجات المشحونة سياسياً، لها جذور عميقة راسخة في العالم الإسلامي. ومصطلح «طراز» مشتق من الكلمة الفارسية التي تستخدم للتعبير عن «التطريز» أو «الأعمال الزخرفية»، بيد أنّه أصبح يدلُّ على منسوجات وملابس العصور الوسطى التي تحمل كتابات عربية، إضافة إلى ورش العمل التي ترعاها وتنظّمها الدولة، التي أنتجت هذه المنسوجات والملابس للخليفة. وغالباً ما تضمّنت حواف القطع الكاملة اسم الحاكم وألقابه، وعبارات ورعة ومكان وتاريخ الإنتاج.
لم يقتصر استخدام النقوش القرآنية على المنسوجات لأسباب سياسية على فترة العصور الوسطى فحسب. إذ أنّ ستارة حريرية من القرن التاسع عشر مصنوعة بأمر من السلطان العثماني محمود الثاني (حكم بين 1808-1839)، مُطرّزة بعدة آيات قرآنية مختارة بعناية من أجل عرضها للعامة في المسجد النبوي في المدينة المنورة (صفحة 182-183). ولم تكن الرسائل السياسية على الستارة موجّهة لأعداء محمود فقط، الذين نجحوا بالاستيلاء على مكة والمدينة من العثمانيين لفترة من الزمن، بل كانت موجّهة كذلك لكل من يزور هذا المسجد المقدّس في المدينة المنورة، لكي يقدّروا أيضاً أنّ الله، وعبر كلمات القرآن المقدّسة، قد أضفى الشرعية على مكانة السلطان، بوصفه الخليفة الشرعي لجميع المسلمين وحارس أقدس مدينتين في الإسلام.
وما تزال المنسوجات تشكّل عناصر أساسية في الخطاب السياسي في الآونة الأخيرة. ومن أشهر الأمثلة، الكوفية ذات المربعات البيضاء والسوداء المربعة، أو غطاء الرأس الرجالي الذي أصبح رمزاً للهوية الوطنية الفلسطينية في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، وارتبط لاحقاً بشكل وثيق بياسر عرفات (1929-2004)، الذي أصبح رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية. كما نرى المعطف المخطط بالأزرق وبالأخضر (الشابان)، الذي اعتمده الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي (حكم بين 2001 و2014).
خلق كرزاي أسلوبه المميز من خلال ارتداء هذا الثوب المنسوج من الحرير في التجمعات العامة جميعها، إضافة إلى قبعة صوف الحمل (قراكولي)، وكلاهما يرمزان إلى الثورة والمكانة الاجتماعية والثقافة العالية. ووفقاً للمؤرخ ويليم فوغيلسانغ فإنّ اختيار كرزاي للملابس، كان عبارة عن محاولة مُتعمّدة لخلق زي وطني لأفغانستان، التي تضمُّ العديد من المجموعات العرقية، ولتصوير نفسه كزعيم للشعب الأفغاني بأكمله.

كاتب سوري