تؤسس نخبة سورية اليوم منطقها في حقل السياسة باستخدام أدوات ثقافية ليس لفهم الواقع ولكن للتحايل عليه , بصراحة أكثر لتزييفه , وحين تقوم بتزييف الواقع فهي تلوي عنق الحقائق لتخدم في النهاية النتائج التي تريد التوصل إليها .
في مواجهة ظاهرة يبدو أنها أقلقت نخبة سورية كونها تسير ليس كما تحب تلك النخبة بل بطريق معاكسة تتمثل في ذلك التأييد الشعبي الواسع غير المعهود الذي يتمتع به العهد الجديد , هذا التأييد الذي يجعل من الوقوف ضده والسعي لإسقاطه لصالح نموذج خيالي مركب من مدينة ديمقراطية فاضلة كان يجب أن تنبثق تلقائيا وفورا مع إسقاط النظام البائد الذي تصر تلك النخب على تشخيصه بكونه ” استبداديا ” مع خطين تحت كلمة “استبدادي” مع كونه – كما تدعي- رغم استبداديته لم يكن نظاما بمرجعية دينية ( لاحظ كيف يعطى امتيازا عن العهد الجديد بطريقة ناعمة ) أما نظام الشرع فهو استبدادي بمرجعية دينية ( صلبة ) .
بعد هذا التشخيص الذي سأتحدث لاحقا عن مدى زيفه , تصبح المشكلة التي نواجهها هي هذا التأييد الشعبي الواسع الذي يسد على النخبة الطريق نحو السلطة .. من أجل رفع الشعب الجاهل إلى الجنة الديمقراطية التي لايدركها عقله .
وكي لاتقع النخبة في هجاء الشعب فهي تختار هدفا أسهل ( سوف تارغت ) كما يقال , والهدف هنا هو من لايستجيب لها من المثقفين في الوقوف ضد العهد الجديد , فهؤلاء هم من يمنح “قطيع الأغنام” شيئا من الشرعية الثقافية وحين يمكن عزلهم أو إقناعهم بالانضمام لركب النخب المعارضة يصبح من السهل مهاجمة الشعب أو ” قطيع الأغنام ” السائر وراء عاطفته الدينية .
والتحايل في الهجوم علي تلك النخب التي لاتسير كما يريدون سهل وبسيط , إخفاء وقوفهم مع شعبهم وفهمهم لمعاناته وتطلعاته , واستبدال ذلك بكونهم لاينقدون بما يكفي العهد الجديد , بل يصفقون له والحقيقة أن المسألة ليست في جوهرها في النقد ولكن في مهاجمة العهد الجديد بوصفه استعادة للاستبداد بطريقة أسوأ من استبداد بشار الأسد .
وحين يكون الأمر كذلك فليس المطلوب نقد العهد الجديد ولكن استبداله , فهو” مجرد سلطة سياسية مؤسسة على العسكر بمرجعية دينية صلبة ومتشددة , وعلى المثقفين أن يفهموا أن السلطة شيء والدولة شيء آخر , بالتالي فالهجوم على السلطة واستبدالها لايعني الوقوف ضد الدولة” هكذا تصبح المسألة بعد أن يتم تزييفها .
الآن أين يكمن الزيف في أسس التحليل والتضليل في نتائجه الخطيرة :
من البداية فالنظام السابق ليس محض نظام استبدادي ونقطة على السطر , هذا يشبه من يقول عن السم إنه مجرد مشروب مر الطعم , النظام السابق ياسادة نظام إبادي وحشي كاد يقتلع شعبا بكامله من أرضه ويرميه في أصقاع الأرض عبر البحار بعد أن قتل مايقارب مليونا منه بالقصف بالبراميل والصواريخ البالستية والمدفعية الثقيلة والطيران الذي لم يستخدمه حاكم ضد شعبه كما استخدمه بشار الأسد , وحين لم يفلح بانهاء المعركة لصالحه لجأ للأسلحة الكيماوية ولولا أن منعته الدول الكبرى عن استخدامها وجعلتها خطا أحمر ليس للشفقة والانسانية ولكن لاعتبارات استراتيجية دولية لأباد مدنا بكاملها بالسلاح الكيماوي . ثم استقدم النظام الايراني بكل ثقله وأذرعه الميليشاوية والطيران الروسي بكل قوته وفعاليته في قصف حلب وادلب وقرى حماة وغيرها لحسم الصراع بأية طريقة والبقاء في الحكم ولو بجزء من سورية.
الحقيقة الناصعة التي يتعامى عنها مثقفو الغفلة أن الشعب السوري في غالبيته الساحقة كان يباد بكل مافي الكلمة من معنى , وإلا فما هي دلالة أن يقتل مليون انسان حوالي 90% منهم من المدنيين ومعظمهم من الشباب ويسجن مئات الألوف ليموتوا تحت التعذيب ويطرد مايزيد عن عشرة مليون من مدنهم وقراهم لتتحول إلى أنقاض لايعيش فيها سوى البوم والغراب .
لم تكن إبادة العرب المسلمين في الأندلس بعيدة عن إبادة السوريين لو استمر نظام بشار الأسد ” الاستبدادي” فهم لم يبادوا بقتلهم جميعا بالسيف ولكن أبيدوا بطرق شتى منها القتل ومنها السجن والتعذيب ومنها التهجير وهكذا سنة بعد سنة اختفى شعب كان يعد بحوالي سبعة مليون عربي مسلم يوصف بأنه كان أرقى شعب أوربي في زمنه .
الآن حين نخفي حقيقة وجوهر نظام بشار الأسد الابادي الوحشي ونعيد تعريفه بكونه ” استبدادي ” فما نفعله هو أننا نزيف الحقيقة بتخفيف صفته إلى حد كبير لدرجة أني لا أشك أن بشار سيكون سعيدا جدا حين يوصف بأنه ” مستبد ” ولاحظوا معي أن إعادة تعريف بشار ونظامه بالاستبداد يجعله نظاما عاديا ضمن عشرات الأنظمة الاستبدادية في المنطقة .
هذا التزييف في إعادة تعريف النظام البائد يعطيه الحق في أن يقارن بأي استبداد آخر فكيف باستبداد يجري إضفاء الطابع الديني المتزمت عليه مع التلاعب با ستحضار كل المخيال المرتبط بسلوك القاعدة الوحشي تجاه المذاهب الأخرى وتجاه من يعارضها .
أما التزييف في النتائج التي تريد النخبة البائسة الوصول إليها فهي طرح ماهو منطقي وينسجم مع مقدماتها الكاذبة وهو التالي : ” لماذا نقبل بسلطة استبدادية لتحل محل استبداد الأسد ؟ ” ولاحظوا معي أننا هنا لم نعد بصدد النقد ولكن بصدد الاستبدال هذه واحدة , الثانية تكمن في استخدام بديهة معروفة لكن لاتنطبق على الواقع الراهن حين يتم تذكيرنا ” بذكاء ” أن السلطة غير الدولة , يعني لاتخافوا على الدولة نحن نريد فقط استبدال السلطة , أما الواقع فهو أن الدولة السورية انهارت مع انهيار النظام وأن السلطة الحالية بكل عيوبها هي وحدها القادرة والمؤهلة لاعادة بناء الدولة , وحين تسقط هذه السلطة فلن تنبثق الدولة السورية بل ستتمزق سورية إلى أشلاء لكن ماذا يهم هذه النخبة التي لاتنظر سوى إلى سرة بطنها ؟.
أخيرا : لماذا لاتبتعد تلك النخبة قليلا عن الألعاب البهلوانية وتقول لنا بصراحة واستقامة كيف ستستبدل هذه السلطة بكل النعومة والسلاسة التي توحي بها ؟
هل عن طريق التدخل الأمريكي أم الاسرائيلي أم الروسي أم عن طريق زرع الفوضى والأعمال الارهابية بالتحالف مع فلول النظام ؟
نعم نحن مع العهد الجديد وسنقف ضد من يسعى لإسقاطه , فلايوجد شعب يختار العودة لمقصلة الإبادة .
وضمن ذلك سنظل ننقد أخطاءه ونسعى بكل الطرق السلمية للدفع باتجاه الدولة الوطنية الديمقراطية .