بعكس ما كان يأمل كثر، استأنفت القوات الاسرائيلية هجومها على قطاع غزة، منطلقة من حيث توقفت قبل الهدنة في الجزء الشمالي، ومتوسعةً في عمليتها البرّية مستهدفةً شرق خان يونس ووسطها في الجزء الجنوبي من القطاع. وتقول إسرائيل إنّ الهدنة انهارت بعدما رفضت “حماس” الاستمرار في عملية تبادل الأسرى ضمن الشروط السابقة. هذا في حين تحدثت بعض الجهات الاسرائيلية عن أنّ قيادة الجيش كانت قلقة من إمكان فقدان قواتها المهاجمة زمام المبادرة على أرض المعركة إذا ما طالت فترة الهدنة. وكانت تخشى من أن يستفيد مقاتلو الفصائل الفلسطينية من الهدنة لتحسين مواقعهم وتعديل خططهم لمواجهة القوات الاسرائيلية. وهذا ما تحدث عنه تقرير لمعهد دراسة الحرب في أميركا، والذي يقوم بمراقبة النزاعات العسكرية حول العالم ورصد تحركات الجيوش عبر الأقمار الاصطناعية ووسائل الكترونية وتتبّع ما يتمّ تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي، وكل ذلك بهدف إصدار تحاليل مع توقعات عن مسار هذه الحروب.
فلقد كشف المعهد أنّ تكتيكات مقاتلي “حماس” تطورت نتيجة الهدنة التي أتاحت للمقاتلين الفلسطينيين الفرصة لرصد تحركات القوات الاسرائيلية وتوقّع كيفية تحركاتها على بعض المحاور من أجل إعداد الكمائن المحكمة عند عودة القتال. انما رغم تكبّد اسرائيل خسائر في صفوف جنودها، استمرت في توسيع أماكن سيطرتها. لكن الهدنة أثّرت سيكولوجياً على العديد من سكان غزة من الذين تولّد عندهم شعور بأنّ وقف النار سيكون دائماً. وقد عزز هذا الشعور بعض وسائل الاعلام القريبة من محور الممانعة، والتي صوّرت الهدنة على أنّها نهاية الحرب وانتصار “حماس”. لكن ما أن بدأت القوات الإسرائيلية قصفها غزة بعد اليوم السابع للهدنة، وجد سكان القطاع أنفسهم في مواجهة واقع صعب ومؤلم، إذ عادوا إلى الملاجئ وإلى النزوح مجدداً، وهذه المرّة داخل المنطقة الجنوبية من خان يونس باتجاه رفح أو الواجهة البحرية. فلم يعد هناك مكان آمن في قطاع غزة، وإسرائيل مستمرة باستراتيجية الأرض المحروقة، تدمّر المباني والمجمّعات السكنية من دون أي اعتبار لوجود مدنيين فيها. فبالنسبة اليها، يكفي أن تعطي إنذارات بالإخلاء للمناطق المستهدفة، وبعدها لا تعتبر نفسها مسؤولة عمّن يُقتل داخل هذه المناطق.
لا يزال ردّ الفعل الأميركي والغربي خجولاً، ويتيح لإسرائيل تنفيذ هجماتها في قطاع غزة لتحقيق الأهداف التي حدّدتها، مثل القضاء على البنية التحتية العسكرية لـ”حماس” وقتل قادتها. ويبدو أنّ إدارة الرئيس جو بايدن توصلت الى تفاهم مع قادة الدول السبع الكبرى في مؤتمرهم الأخير في طوكيو، على تأسيس قوة دولية تشرف على أمن القطاع بالتعاون مع السلطة الفلسطينية بعد انتهاء الحرب.
بالطبع الحكومة الاسرائيلية الحالية بقيادة بنيامين نتنياهو لها مشاريع أخرى تتضمن احتلال القطاع ومن ثم إنشاء حزام أمني حوله بعد التأكّد من خلوه من السلاح. لكنّ واشنطن وحلفاءها يضغطون بشدة على الساسة في إسرائيل ويدفعون باتجاه إسقاط الحكومة فور انتهاء الحرب وتشكيل حكومة جديدة تكون أقل تطرّفاً وأكثر استعداداً للتجاوب مع الخطط الأميركية، والتي لا تزال في مراحل التطوير. وبحسب مصادر أميركية، فإنّ واشنطن أبلغت نتنياهو أنّها تتوقع انتهاء الحرب في أواخر شهر كانون الثاني (يناير) كحدّ أقصى. لكن الحكومة الإسرائيلية تريد إعطاء الجيش الوقت الذي يحتاجه لإنهاء المهمّة بأقل خسائر ممكنة في صفوفه، الأمر الذي قد يمتد الى شهر آذار (مارس) المقبل.
لكن قد تشهد فترة الميلاد المقبلة هدنة إنسانية جديدة لأسبوع، بهدف إطلاق عدد جديد من الأسرى الإسرائيليين، أقلّه ما تبقّى من المدنيين، وذلك لتخفيف الضغط الداخلي من أهل الأسرى على حكومة نتنياهو. وبحسب مراقبين غربيين، تأمل القيادة الإسرائيلية بأن تؤدي شراسة القصف وعنف الهجوم البري وتوسعه الى إنهاك “حماس” داخل القطاع وإجبار قادتها على استئناف إطلاق الأسرى ضمن شروط مقبولة من تل أبيب. لكن ما تظهره تصريحات القادة الاسرائيليين وتسريبات الصحف الغربية، هو أنّ تل أبيب مصمّمة على استمرار العمليات العسكرية لأطول وقت ممكن، من أجل تحقيق أكبر كمّ من أهدافها. وبحسب بعض المحلّلين فإنّ إسرائيل تهدف من وراء العنف الشديد وسياسة الأرض المحروقة من دون أي حسيب أو رقيب من المجتمع الدولي، إلى أن تكسر عزيمة سكان القطاع وتوجد حالة نفسية داخلهم الآن ولأجيال عدة، تجعلهم يرفضون وجود أي مجموعات مقاومة مسلحة بينهم مستقبلاً، تستهدف المستوطنات الإسرائيلية. كما يأملون عبر هذه الحرب الضروس باستعادة هيبة الجيش الإسرائيلي، وجعل غزة عبرة لكل من ينوي تهديد إسرائيل لاحقاً. ولقد سُمع العديد من المسؤولين الإسرائيليين يهدّدون “حزب الله” بأنّ مصير جنوب لبنان أو بيروت سيكون مثل غزة في حال استمرت الهجمات على الحدود الشمالية لإسرائيل.
لم تثن الهجمات التي تشنّها المجموعات المرتبطة بإيران ضمن محور الممانعة، إسرائيل عن المضي قدماً في حربها ضدّ غزة. فهي عادت بالوتيرة عينها التي كانت عليها قبل بدء الهدنة، إن كان في جنوب لبنان أو ضدّ القواعد الأميركية في سوريا والعراق أو حتى هجمات الحوثيين على سفن في البحر الأحمر أو اطلاق صواريخ ومسيّرات باتجاه اسرائيل – لم يصل أي منها إلى هدفه. وأدّى تصاعد الردّ الاسرائيلي الى مقتل ضباط من الحرس الثوري الايراني قرب دمشق، وإلى استهداف مركز للجيش اللبناني أدّى الى استشهاد جندي وجرح آخرين. طبعاً اسرائيل لم تُخطئ في استهدافاتها، إذ إنّها في الأولى وجّهت رسالةً إلى طهران بأنّ عناصر الحرس الثوري الإيراني في سوريا باتوا أهدافاً لها. أما في الثانية فوجّهت رسالةً إلى لبنان بأنّ العقاب سيكون جماعياً وسيشمل لبنان الدولة أيضاً في حال استمر القصف على المستوطنات الإسرائيلية انطلاقاً من لبنان، ولن يقتصر الردّ على “حزب الله” فقط. ولقد تسلّمت الحكومة اللبنانية عبر وسطاء دوليين، رسائل واضحة بأنّ اسرائيل ستفتح ملف جنوب لبنان فور انتهاء الحرب في غزة، ولن ترضى ببقاء عناصر “حزب الله” المسلّحين جنوب نهر الليطاني.
وقد يجد نتنياهو في نقل الحرب الى لبنان بعد غزة فرصةً لاستمراره في السلطة وتأخير عواقب فشل حكومته بمنع هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر). فإذا ما وجد تأييداً قوياً داخل المؤسسة العسكرية ووزير الدفاع لتوجيه ضربة قوية إلى “حزب الله” وفرض معادلة جديدة على حدوده الشمالية، فهو من الأرجح لن يفوّتها، رغم وجود معارضة أميركية وأوروبية لها.
وتتصاعد الأصوات من سكان شمال إسرائيل المطالبة بإزالة تهديد “حزب الله” عن الحدود كشرط لعودتهم الى منازلهم. وفي الوقت عينه، لفت تنامي قوة “حزب الله” العسكرية من ناحية نوعية الأسلحة التي يمتلكها وتكتيكات مقاتليه الناجحة في المواجهات الأخيرة، العديد من المراقبين والجنرالات الاسرائيليين الذين يشدّدون على ضرورة شنّ ضربة قوية للحزب في لبنان تقلّص من قدراته. وعليه، يبدو أنّ المواجهات في جنوب لبنان قد لا تؤدي الى ردع اسرائيل كما تريد قيادة “حزب الله”، بل قد تؤدي إلى رفع منسوب الخوف الوجودي من جانب إسرائيل، ويدفعها لشن حرب على لبنان في وقت قريب.