ينطبق على الذاتية المتطرفة أو الفردية الصارخة في البنية الفكرية للبراغماتية السياسية الفرنسية ومواقفها “المتذبذبة” مما يحدُث في المنطقة العربية ما كتبه مايلز كوبلاند في كتابه “لعبة الأمم”، إنك “لا يمكنك أن تربح المباراة من دون أن تكون لاعباً ضمن الفريق، واذا لم تربح المباراة فغيّر اللاعبين”، ما يطرح واحدةً من إشكاليات الحكم العقيمة التي يبحث المتابع عن إجاباتٍ لها فيما يخصّ علاقة الأخلاق بالسياسة، وليس جديد هذه المواقف أخيرا، بالطبع، إصدار مذكّرات توقيف دولية بحقّ بشّار الأسد وشقيقه وعميدين في الجيش السوري بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، عبر هجمات كيميائية وقعت صيف عام 2013 قرب دمشق. جاءت هذه المذكّرات بعد شهور من تأكيد وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، أنّ بلادها تؤيد محاكمة رئيس النظام السوري “الإرهابي”، رغم مشاركته في القمّة العربية الإسلامية التي عُقدت في الرياض، وللمفارقة لم يكن ليُنسى بعد التصريح الشهير للرئيس ماكرون، الذي قال حرفياً بداية استلامه الحكم: “الأسد عدوّ الشعب السوري لكنه ليس عدو فرنسا، ولم أعد أشترط عزله لتحقيق كلّ شيء، لأنني لا أرى شخصاً خليفة شرعيا له”، الأمر الذي يعزّز فكرة أنّ منظومة الحقوق والقوانين الناظمة لها ما هي إلا مادة سياسية “خام” تُشكّل وفقاً لمصالح الدول بعيداً عن أيّ دعاية قيمية وأخلاقية. في السياق، يستقي ما سبق مزيداً من شرعية الأسد على اعتبار أنّ البراغماتية السياسية تشتمل على مفهومين محوريين: إنكار الحقائق ورفض جميع الأطُر التي تحدّد السلوكيات والأفعال بالفضائل الإنسانية.
طبقاً لهذا الأصل، ووفق هاتين الخصيصتين، نلاحظ، وبنظرة عميقة، أنّ فهم السياسيين الحقائق، في نهاية المطاف، رهنٌ بالنتيجة النافعة للوقائع، وهل أدلّ على ذلك، مثلاً، من تباكي الولايات المتحدة على الإسرائيليين وإدانتها حركة حماس رغم ارتكابها جرائم إبادة مروّعة في العراق وأفغانستان! على التوازي، شكلت البراغماتية السياسية الأساس الذي بنيت عليه الأطماع العالمية اللاحقة، ليبلغ الفكرُ السياسي قمّةَ هرمه البراغماتي، بعدما نشأ تيار رجال الدولة والساسة “البراغماتيين” الذي لا يتبنّى عقائد حتمية، وإنما يكتفي بتطبيق منهجيّته الخاصة، وأساسها النظرة الدارْوينية إلى الإنسان بوصفه حيواناً في دائرة الصراع والبقاء فيها للأقوى، لأنّ العقلية البراغماتية، باختصار، لا تؤمن بالثورة ولا بالثوريين، ويكفي التعليل على ذلك بصمت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، عن وصف وزير الدفاع الإسرائيلي سكان غزّة بـ”الحيوانات البشرية”، وتهديده بقطع الوقود والغذاء والمياه عن مليوني فلسطيني والتهديد بتهجيرهم.
البراغماتية السياسية، في جوهرها، تُعَدّ نوعاً من الفعل “الابتزازي المقنَّع” في مقابل المثالية، لأنّ معيار صحّتها رهنٌ بارتباطها العضوي بالأكاذيب التي يجب تصديقها وتبنّيها، ثم القول بأصالة المنفعة، والعملانية، والذرائعية، وما إلى ذلك. وعلى اعتبار أنّ البراغماتية الفرنسية تجاه ما يحدُث في سورية عملية عاقر لم تؤتِ ثماراً أو مغانم سياسية حقيقية.
وبالعودة إلى بادئ ذي بدء، لا بدّ من طرح السؤال الملحّ: هل تُؤخذ مذكّرات التوقيف الفرنسية آنفة الذكر على محمل الجدّ بعدما تمرّغت لعبة المراوغة وازدواجية المعايير للحقائق المطلقة في موقف فرنسا من حرب الأسد ضد شعبه الثائر في مستنقع المحاصصات والتحالفات وسط غياب منهجية إلزام التطبيق والقدرة عليه؟ ولنزد من الشعر بيوتاً للإحاطة بالجواب الشافي… منذ بدء الانتفاضة السورية، أدّت فرنسا دوراً مهماً بتشجيعها تكوين المجلس الوطني السوري المعارض، وكانت أول دولة غربية تعترف به ممثلا للمعارضة، ورغم تصريحات المسؤولين الفرنسيين النارية ضد النظام السوري آنذاك، إلا أنها مع قرب الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية التي جرت عام 2012 تراجعت بشكل ملحوظ، خوفاً من الانغماس في الأزمة، والتي ربما ستنعكس سلباً على انتخاب ساركوزي، ليؤكّد يومها رئيس الحكومة الفرنسية، فرانسوا فيون، وهو أحد كبار زعماء المعارضة اليمينية، “أنه لا بدّ من مساعدة نظام الأسد لأنه رغم كلّ سيئاته على وشك السقوط”. ثم وبعد وصوله إلى سدّة الرئاسة، دعا فرانسوا هولاند إلى ضرورة استخدام القوة العسكرية لإسقاط الأسد، إلا أنّ التوافق الأميركي الروسي على تدمير الأسلحة الكيميائية أدّى إلى تراجع الموقف الفرنسي، وهذا بدهي بطبيعة الحال، فالتطورات السياسية الظاهرة تعكس السلطة الحقيقية العالمية التي تختفي خلف “الدمى” السياسية، هرباً من الفضائح البراغماتية المجلجلة، رغم تفاؤل بعضهم واعتبار المذكّرات ذات رمزية سياسية كبيرة، كونها تستهدف الأسد نفسه، وإمكانية استثمارها بذكاء لجرّه إلى قفص الاتهام ومحاكمته.
في المقابل، من المفيد الإشارة إلى الوعد السابق للرئيس ماكرون، أنّ فرنسا ستقوم بضرباتٍ لتدمير خزائن الأسلحة الكيميائية في حال معرفة مصدرها، غير أنه لم يصدر عنها أيّ ردّ فعل، رغم إثبات تقرير البعثة الخاصة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في سورية أنّ نظام الأسد استعمل غاز السارين في قصفه خان شيخون في أبريل/ نيسان 2017.
وبالتأسيس على هذا المعطى، لا يضيرنا القول إنّ المذكرات الصادرة أخيرا تفقد مصداقيتها اليوم، خصوصا وسط العزف الفرنسي الصريح على وتر “معاداة السامية” في غضون الحرب التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزّة، فبعدما ندّد ماكرون بأعمال العنف التي ينفّذها المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية على أنها “سياسة ترهيب”، برّأ في مكالمة هاتفية له مع نظيره الإسرائيلي تل أبيب من إيذاء المدنيين عمداً، مشدّداً على دعمه المطلق حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وفي الحقيقة، تبدّل المواقف الفرنسية يجعل من ماكرون قائداً فاشلاً في ملعبٍ دموي مليء بـالتخبّط والتناقض وعدم المصداقية، فبعد حظر وزير الداخلية الفرنسي المظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني في جميع أنحاء البلاد، جرى اتهام النجم الفرنسي من أصول جزائرية كريم بنزيمة، بأنه ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين بسبب تغريدة له يدعم فيها سكان غزّة، تحاول باريس نفي تهمة “البراغماتية المقنَّعة” بتذكير الدول الداعمة للقضية الفلسطينية بأنها صوّتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح وقف إطلاق النار في غزّة، والذي حاز تأييد 120 دولة، ومعارضة 14، بينها الولايات المتحدة.
بالتساوق مع ما تقدّم، وفي إطار إعادة ترتيب البيئة الدولية ضمن مصفوفات براغماتية جاهزة، مرتكزة على ترسانة هائلة من تشويه الحقائق وتغييب المشاهدات الحيّة، يبدو أنّ واقعية السياسة الفرنسية تُطعّم بقيم ومبادئ ذرائعية وعواقبية، من دون إغفال القياس للظروف الموضوعية التي أدّت إلى التذبذب الفرنسي وتفسير حركية انتقاله من موقف إلى آخر. وقد نفى، وبشكل قطعي، توماس هوبز، وهو أبرز المنظّرين الغربيين في القرن السابع عشر، وجود الأخلاق في الأروقة السياسية. ومن هذا المنطلق المقتصر على المصالح الآنية والأنانية، تأتي سياسة “الابتزاز العالمي النفعي” مستندة إلى الانتهازية وإسقاط الاعتبارات الأخلاقية من مسارات العمل السياسي، لأنها ببساطة لا تهتم بقضايا الإنسان وتحرّره، وإنما بالبحث عن المنافع الخاصة وبالوسائل الكفيلة بتحقيقها، ما يؤكّد أنّ الضعيف مكرهٌ على العيش في عالم لا عقلانيّ يتعذّر فهمه. أما الأمور الأخرى، من قتلى وجرحى ومنكوبين ومشرّدين، فهي أثمان مستحقة لا ينبغي الوقوف عندها أمام (نبل) الهدف العالمي، لأنّ “الشيطان البراغماتي” يكمن دائماً في التفاصيل، ويحكم بقبضةٍ حديدية من خلال إسقاط كلّ الأيديولوجيات ما لم تكن قابلة للانضواء تحت مظلته.