الجو العام المضطرب في سورية، والمحموم بالريبة والكراهية ولغة الانقسام في بلدٍ لم يخرج بعد من النزاعات الدولية والإقليمية، أعاد إلى ذهني قراءات عن “المسألة الشرقية” في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وهو موضوع أشير إلى أحد جوانبه الجزئية، من غير أن أكون مختصّاً، فهو يحتاج إلى باحثين لكثرة تشعّباته وتعقيد تفاصيله، إذ تتنوع محددات المسألة الشرقية بحسب المراحل التاريخية، وهي صراع بين القوى الأوروبية حول مصير الأراضي العثمانية، سواء عبر دعم حركات الاستقلال القومية، أو من خلال التنافس على اقتسام الأراضي العثمانية بعد ضعفها التدريجي.
إنها إدارة نفوذ تنطوي على غايات استعمارية من حيث المبدأ، بالإشارة إلى عمل الدول الأوروبية على منع نشوء قوة مصرية تهدّد العثمانيين، ومنع روسيا من التوسّع في البلقان والسيطرة على المضائق العثمانية. إدارة قام بها البريطانيون والفرنسيون بصورة رئيسة كي يمنعوا سقوط العثمانيين بشكل يهدّد مصالحهما. ويظهر للمتابع أن هذا عهد قديم يعود إلى قرنين من الزمن، إلّا أنّ عدة عوامل في الشأن السوري تجعل هذه المقاربة واردة، ولو من باب التحليل لاستخلاص دروس من الماضي. وكأنَّ المنطقة لا تزال عالقة في القرن التاسع عشر مع تغيير شكلي في القوى المتصارعة والتحالفات، خصوصاً مع زراعة “إسرائيل” وسط هذه الجغرافيا، وعلى كرهٍ منها، وما رافق ذلك من تغير في القوى الإقليمية.
انتهت “المسألة الشرقية” مع نهاية الحرب العالمية الأولى. وما يعنينا هو الصيغة السياسية من هذه المسألة المركبة التي هدف الأوروبيون عبرها إلى إبقاء “الرجل المريض” على قيد الحياة، ثم اقتسام تركته عبر سايكس بيكو (1916)، وغيرها من المعاهدات. وتتجلّى بعض آليات “المسألة الشرقية” في المشهد السوري اليوم عبر التدخلات الدولية، وإعادة استخدام قضايا “الأقليات”، والتنافس الدولي على النفوذ. وكأن التاريخ يعيد نفسه بقوى جديدة في سورية التي نشأت حدودها السياسية الراهنة مع توزيع تركة “الرجل المريض”.
إعادة مفهوم الأقلية والأكثرية إلى فضاء العمل السياسي
وقد وردت إلى ذهني هذه المقاربة التي يمكن أن تكون شطط روائيٍّ، لا باحث؛ من اعتياد القناصل قديماً التدخل لدى الوالي عند وقوع حوادث طائفية، لتصدير انطباع عن حماية القناصل الغربيين للجماعات السكانية من غير المسلمين، واستخدامهم ورقة ضغط لرسم النفوذ داخل الولايات العثمانية.
واستمرت الأزمات تدور في هذه الحلقة المغلقة التي تبدأ مع انفجار أعمال عنف طائفي تدفع الدول إلى التدخل استجابة لضغوط الرأي العام. لكن بقي هذا التدخل في إطار الاستخدام السياسي لهذه النزاعات، لأن دفاع عموم الغرب عن “الأقليات” لا يحصل بدافع الحماية، بل بوصفه أداة نفوذ سياسي وثقافي.
تبدو السياقات العامة متقاربة في ظاهرها بين ما كان يحدث في الماضي، وما يسوّق له اليوم. مع ذلك، لا فائدة من انتظار تكرار التاريخ، أكان مأساة أم ملهاة. ولا فائدة من أن يغرق المرء في سيناريوهات المؤامرة، أسوةً بنظام الأسد الذي طوّر المؤامرة السياسية عليه لتصبح كونية الطابع؛ لأن تجاوز هذه الحلقة التاريخية المغلقة يتطلب حلولاً داخلية تعزز المواطنة، وترسّخ مبدأ الدولة الحديثة التي يتساوى فيها الجميع بإعادة مفهوم الأقلية والأكثرية إلى فضاء العمل السياسي، لا الانتماء الديني.
كذلك ينبغي إيقاف خطاب الكراهية في المجتمع السوري، فأقصى جهد الإنسان أن يعيش حراً في بلده. ولا معنى للقول إن الغرب يخطط لتقسيم المنطقة؛ فالفرصة قائمة لتطوير عقد اجتماعي يؤسّس لدولة قانون لا تختزل مواطنيها في موازين القوى الطائفية. وقد يكون متاحاً لنا الاستفادة من دروس التاريخ الذي يهم بإعادة تشكيل نفسه. على الأقل، هذا ما ورد في مخيلة الروائي.