“تغيير وجه المنطقة” هي العبارة التي يردّدها المعنيون بالحرب الأكثر دموية في قطاع غزّة وعليه، وقد تصبح الحرب الأشرس في الشرق الأوسط في حال تجاوزت الحدود الإسرائيلية شمالاً. وتغيير وجه المنطقة ظلّ عقوداً لازمة لا تفارق خطابات حكام إيران وأتباعها. من مرشدها مروراً بوكلائه وحلفائه في لبنان وفلسطين والعراق واليمن، كانت تلك التعويذة تُتلى بنيّةٍ تحاكي المعنى الحرفي للتعويذة مثلما تورده المعاجم، أي “لتقي من الشر وللاعتقد بأن لها تأثيراً سحرياً”. التأثير السحري يمكن ملاحظته من واقع أن شرعية حكّام طهران وحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، وحتى مليشيات إيران في العراق واليمن، ظلت تنبع من وعد “تغير وجه المنطقة”، والمقصود فيه إزالة إسرائيل من الوجود وربما قتل اليهود مثلما تقول الصرخة الحوثية الشهيرة وأدبيات أشقاء كثر لجماعة أنصار الله في بلدان المحور. تأثير سحري آخر لوعد تغيير وجه المنطقة غالباً ما كان يولد من الرغبة باتّقاء شر إسرائيل وأميركا، لكنه كان يؤدّي إلى نتائج معاكسة لمضمون الوعد. فمنذ افتتحت إيران الخمينية مرحلة التغيير ذاك، ما فتئت إسرائيل تزداد قوّة والشعب الفلسطيني يزداد بؤساً ويخسر من أرضه وحقوقه وناسه وحلفائه حول العالم. فوق ذلك، كان تغيير وجه المنطقة بالمنطق الإيراني يُترجم حروباً داخلية وانقساماً طائفياً وتخريباً للإجماعات الوطنية الهشّة أصلاً في المشرق العربي. ظلّ الوعد الإيراني بتغيير وجه المنطقة يتيماً إلى أن عانقه وعد إسرائيلي مقابل بالتعابير نفسها، مع استبدال بنيامين نتنياهو مفردة المنطقة ذات الدلالة الجغرافية، بـ”الشرق الأوسط” المشبعة بالبعد السياسي، وقد وجد في العملية العسكرية الاستثنائية بنجاحها التقني (طوفان الأقصى)، ذريعة ليعد العالم، وبدعم غربي لإسرائيل لم يسبق أن تحقّق تاريخياً، بتخليص العالم من صداع يؤرقه منذ 75 عاماً، أي من شيءٍ اسمُه القضية الفلسطينية، وهو الشعار الضمني لحكومته التي صار التطرّف مصطلحاً ملطفاً حين يُستخدم لوصفها.
والحال أن أميركا زمن دونالد ترامب كانت لها وصفتها السحرية لتغيير وجه المنطقة من دون استخدام المصطلحات الثلاثة، بل أضفت على مشروعها بعداً دينياً حضارياً قد يُغري أتباعاً كثراً للديانات السماوية الثلاث من وزن “المشروع الإبراهيمي”. طُبّق الكثير منه عبر عزل القضية الفلسطينية عن سندها العربي من خلال اتفاقات التطبيع والتحالف بين بلدان عربية وإسرائيل، ونقل سفارات دولٍ إلى القدس لانتزاع ركن أساسي من أركان “القضية”، وإعطاء تل أبيب الضوء الأخضر للانتهاء من قضم ما تبقّى من الضفة الغربية، وشرعنة احتلال الجولان، ليبقى قطاع غزّة عقدة العقد. ما العمل مع 365 كيلومتراً مربعاً يسكنها 2.3 مليون شخص، وتحكمها حركة مسلحة دينية متشدّدة بيد من حديد، وتعد بدورها بتغيير وجه المنطقة، وترفض أي حلٍّ سياسي مع إسرائيل؟ الحروب الإسرائيلية الموسمية على القطاع، أو “المعارك التي تفصل ما بين الحروب” عليه لم تكن كافية لتتخلّص إسرائيل من غزّة، ذلك أن المشكلة مزدوجة بالنسبة إليها: حماس وسكّان غزة معاً. مشروع الوطن البديل للغزيين في سيناء لم يختفِ يوماً من الطرح، لكنه بقي أشبه بالحلم الإسرائيلي الذي يستحيل أن يتحقّق، على أساس أنه في الألفية الثالثة، صعب جداً تصديق احتمال اقتطاع أراض من بلد وإعطائها لشعب بلدٍ آخر، ومحو وجود الشعب ذاك لزرع جزء منه في أوطان مجاورة ربما تُعطى اسما جديدا مختلفا عن فلسطين حتى.
أما وقد حصل ما حصل يوم السابع من أكتوبر، بنجاح عسكري تقني باهر، لكن بنتيجة سياسية عكسية، وبوقوف معظم عواصم الغرب ومسؤوليه صفّاً واحداً خلف من كانوا في الأمس القريب يسمّونها حكومة إسرائيلية متطرّفة ويرفضون دعوة وزراء منها لزيارة عواصمهم، فإنما فكرة كانت تنتمي إلى جنس الخيال، كالوطن البديل في سيناء، صارت تبدو بديلاً عن إبادة سكان غزة حرفياً لا مجازياً. في هذا الوقت، يمكن للعالم أن يطمئن إلى رسالة بعثة إيران في الأمم المتحدة، فـ”القوات المسلحة الإيرانية لن تشتبك مع إسرائيل شريطة ألا تغامر بمهاجمة إيران ومصالحها ومواطنيها”. يمكن فتح الستارة على فصلٍ جديدٍ من قتال إيران بجنودها العرب.