ملخص
دفع ماسك ما لا يقل عن 270 لحملة ترمب والمرشحين الجمهوريين، وهو مبلغ كان كافياً ليستحق لقب “الناخب الأكبر” في السباق الرئاسي الأخير، ولكن السؤال المطروح الآن هو هل يختار الملياردير النافذ الطريق الصعب ويحافظ على موقعه في المعادلة السياسية أم أنه سيعود للتركيز على طموحات “تيسلا” وأحلام المريخ في “سبيس إكس”؟
قبل عام 2024 لم يحسب الديمقراطيون حساباً لأغنى رجل في العالم، إيلون ماسك، الذي كثيراً ما تجنب الانجراف إلى ميادين السياسة ولعبة الانتخابات الرئاسية الأميركية، واكتفى بتبرعات متواضعة توزعت أحياناً لمرشحي الحزبين على حد سواء، لكن في يوليو (تموز) 2024، حدثت محاولة اغتيال دونالد ترمب في بنسلفانيا، وفجأة تحول الملياردير الأميركي المولود في جنوب أفريقيا من مراقب متحفظ إلى أكبر متبرع للجمهوريين، مما جعل الحزب الديمقراطي يدفع ثمن مساعي تهميش ماسك باهظاً، التي بلغت ذروتها في 2021 عندما تجاهل جو بايدن دعوة مالك “تيسلا” إلى قمة السيارات الكهربائية في البيت الأبيض.
دفع ماسك ما لا يقل عن 270 لحملة ترمب والمرشحين الجمهوريين، وهو مبلغ كان كافياً ليستحق لقب “الناخب الأكبر” في السباق الرئاسي الأخير، ولكن السؤال المطروح الآن هو هل يختار الملياردير النافذ الطريق الصعب ويحافظ على موقعه في المعادلة السياسية أم أنه سيعود للتركيز على طموحات “تيسلا” وأحلام المريخ في “سبيس إكس”، ومشاريعه الأخرى التي تضررت بسبب مغامراته السياسية في وزارة الكفاءة الحكومية، مما أحدث موجة من الاحتقان الشعبي تجلّت في “إرهاب السيارات” عبر حرق مركبات “تيسلا”، وتهديدات القتل التي تلقاها ماسك وفريقه؟
هل ينقلب ماسك على الجمهوريين؟
أعلن البيت الأبيض في مستهل الشهر الجاري أن ماسك سيغادر منصبه الإداري في الأشهر المقبلة، ونظراً إلى أن تعيينه كموظف حكومي خاص محدود بـ130 يوماً، فقد يترك العمل الحكومي في نهاية مايو (أيار) المقبل، هذا الإعلان أثار تكهنات عما إذا كان ماسك سيستمر في دعم الجمهوريين في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وعندما سُئل ماسك عن إمكان ترشحه في 2028، أجاب “جدي أميركي لكنني لا أستطيع أن أكون رئيساً لأنني ولدت في جنوب أفريقيا”، لكنه أكد أنه لا يرغب في خوض غمار السياسة لأسباب شخصية وأنه “يريد بناء الصواريخ والسيارات، ويركز على تطوير تكنولوجيات اكتشاف الفضاء والسيارات الكهربائية”.
ومع ذلك، أوضح ماسك بشكل لا لبس فيه أنه ينوي أن يبقى طرفاً مؤثراً في العملية السياسية، وقد قال ترمب في خطاب الانتصار بالانتخابات الماضية، “لدينا نجم جديد، لقد وُلد نجم إيلون”، وفي ضوء استثمار إيلون في “إكس” ودعمه الراسخ الجمهوريين في الانتخابات الماضية، يرجح بعض المراقبين استمراره بلعب دور “صانع الملوك”، لكن الأرجح أن ذلك سيعتمد على توجهات وسياسات المرشحين الذين يدعمهم الحزب، إذ تأكد في الأشهر القليلة الماضية أن دعم إيلون ترمب كان في إطار صفقة تمنحه سلطة هائلة لخفض النفقات الفيدرالية.
وقبل غزوة 2024 نأى ماسك بنفسه عن الاستقطاب السياسي، فعام 2004 تبرع لجورج دبليو بوش ومنافسه في الانتخابات الرئاسية جون كيري بـ2000 دولار، وفي 2008 تبرع لكل من باراك أوباما، وهيلاري كلينتون منافسته آنذاك في الانتخابات التمهيدية الرئاسية للحزب الديمقراطي. ويعزز هذا السلوك المتحفظ التكهنات حول طبيعة دوره السياسي، وما إذا كان سيبقى متبرعاً رئيساً للحزب الجمهوري على غرار روبرت مردوخ أو ينقلب فيصبح متبرعاً للحزب الديمقراطي على غرار جورج سوروس.
ومن السيناريوهات المطروحة أن يختار إيلون موقفه في الانتخابات المقبلة بناء على أيديولوجية المرشح، ومدى التوافق مع أفكاره ومصالحه بصرف النظر عن الحزب، وفي ضوء مواقف إيلون من سياسات الهوية والتنوع التي يدعمها الديمقراطيون، والتي قمعها عبر وزارة الكفاءة الحكومية، فمن المستبعد أن يعود وفاق الطرفين إلا إذا استطاعا الاتفاق على منطقة وسط، ينأى فيها الحزب الديمقراطي عن تكريس سياسات الهوية.
لكن الاقتصاد من نقاط التوافق المحتملة بين ماسك والحزب الديمقراطي الذي كثيراً ما دافع عن التجارة الحرة بين الدول، وهو ما تشنّ عليه إدارة ترمب هجوماً عنيفاً بحجة أن الدول تسلب من خيرات أميركا وتأخذ ولا تعطي، ومن ثم فلا بد مما وصفه ترمب بـ”الدواء” الذي تحتاج إلى أخذه لعلاج مشكلة ما، ويقصد الرسوم الجمركية، وأوضح إيلون علناً في أولى نقاط الخلاف مع ترمب أنه يعارض هذه السياسة.
ماذا فعل إيلون ماسك بالإدارة الأميركية خلال 3 أشهر؟
في المقابل، يأمل الرئيس ترمب من خلال سياسة الرسوم تعزيز الاستثمارات داخل بلاده، وإنهاء “عدم التكافؤ” بين ما تعطيه وتأخذه أميركا من شركائها أو خصومها مثل الصين، التي تعد أبرز المتضررين منها، والتأثير ينسحب على “تيسلا” التي تعتمد بشكل كبير على مصانعها في الصين، ويتجنب ماسك انتقاد بكين، بل يمدحها علناً ويزورها باستمرار ويصف حكومتها بأنها “فعالة وذكية”.
انتخابات 2028 ودعم خليفة ترمب
عُرف إيلون بمواقفه السياسية المتقلبة فمرة يبدو كمستقل، ومرة يبدو كأعتى ساسة الديمقراطيين أو الجمهوريين، ولا مثال أفضل على ذلك من انتقاده العلني الأخير سياسة الرسوم الترمبية، إذ خرج عن مسار الإدارة ودعا إلى منطقة تجارة حرة بين أوروبا وأميركا. وعلى رغم أن مستشار ترمب الاقتصادي بيتر نافارو حاول تهدئة الخلاف مع مالك “تيسلا”، فإن الأخير عاد ليصعد ضده ووصفه بـ”الأحمق”.
ويشير استعداد ماسك للاختلاف مع إدارة ترمب إلى أن قراراته بتأييد مرشح على حساب آخر ستظل مشروطة بتمكينه وقدرة سياسات المرشح على دعم مصالحه الخاصة، وبما أن ترمب غير مؤهل دستورياً لتمثيل الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية 2028 فستتجه الأنظار على الأرجح نحو نائبه جي دي فانس، الذي حافظ في العلن على علاقة جيدة مع الملياردير الأميركي على رغم أن الشهر الماضي تدُوول مقطع صوتي مزعوم يوجه فيه نائب الرئيس انتقادات إلى ماسك، ويقول إن “كل ما يفعله عرضة للنقد في وسائل الإعلام، ويزعم بأنه يساعدنا لكنه يسيء إلينا، وهو ليس أميركياً حتى، بل من جنوب أفريقيا”، مشيراً إلى أنه يريد “تدمير الاقتصاد وسياراته”.
لكن نائب الرئيس سارع في نفي المقطع الصوتي، وأكد أنه موّلد بواسطة الذكاء الاصطناعي، محذراً باتخاذ إجراء قانوني ضد ناشر المقطع، إذا لم يحذفه، وأشار خبراء إلى أن التسجيل الصوتي رديء الجودة ويحتوي تشويشاً وتوقفات ملحوظة، مما يدل على التلاعب، كما أفاد مختص الأدلة الجنائية الرقمية بجامعة كاليفورنيا بيركلي، هاني فريد، بأن جودة الصوت المتدنية بصورة غير عادية خدعة شائعة لإخفاء التزييف، كذلك حللت منصة طورتها جامعة بافالو المقطع وتوصلت إلى أنه مزيف بنسبة 90-100 في المئة، وقدّرت احتمال أن يكون موّلداً بواسطة الذكاء الاصطناعي بنسبة 47 في المئة.
ولم يهاجم ماسك نائب الرئيس بسبب الرسوم الجمركية لكن أخاه كيمبل انتقد فانس، وردَّ على تغريدة دافع فيها نائب الرئيس عن هذه السياسة قائلاً، “من المفترض أن تظهر بعض التعاطف مع مجتمعك الذي يعاني ارتفاع كلف المعيشة… التضخم مُزعج للجميع، ولكنه يُؤثر بصورة خاصة في مجتمعاتنا المحرومة”، في إشارة إلى مذكرات فانس التي روى فيها معاناة عائلته والطبقة العاملة في الغرب الأوسط.
وبعد إعلان مغادرته المرتقبة العمل الحكومي، قال جي دي فانس إن ماسك سيبقى “صديقاً ومستشاراً” له، وأضاف، “إيلون جاء ونحن قلنا له، نريدك أن تجعل الحكومة أكثر كفاءة، نريدك أن تقلص هذه البيروقراطية المتضخمة التي تعرقل إرادة الشعب الأميركي وتكلّف أموالاً طائلة”، مشيراً إلى أن العمل لم يكتمل وستنهي إدارة ترمب المهمة، وأفادت تقارير بأن الملياردير المثير للجدل سيعود للتركيز على أعماله في القطاع الخاص ليؤدي دوراً داعماً من هناك للإدارة الأميركية.
تحديات أمام “صانع الملوك”
من الممكن أن يسعى ماسك إلى ترسيخ موقعه كصانع ملوك داخل الأوساط السياسية، بخاصة أنه لم يوقف لجنة العمل السياسي “أميركا باك” التي أنشأها لدعم ترمب بعد انتهاء حملته، بل قال إنها ستواصل دعم الجمهوريين في الانتخابات النصفية وستؤدي دوراً في الانتخابات التمهيدية.
وصرح ماسك بأنه عادة ما تدخل اللجان السياسية في حال من السكون بعد أية انتخابات محورية، لكن لجنته السياسية ستفعل العكس تماماً، وستواصل العمل بكل طاقتها، وزيادة تسجيل الناخبين الجمهوريين في الدوائر الحاسمة في مختلف أنحاء البلاد، استعداداً للانتخابات التمهيدية والانتخابات النصفية، وبحسب “أسوشييتد برس” موّل ماسك غالبية المبالغ التي تدفقت في لجنته السياسية وبلغت نحو 200 مليون دولار لدعم حملة ترمب.
وفي آخر مساعيه إلى بسط النفوذ ضخّ الملياردير إيلون ماسك أكثر من 20 مليون دولار في سباق المحكمة العليا في ولاية ويسكنسن، آملاً في قلب ميزان السيطرة نحو التيار المحافظ، لكن الناخبين كانت لهم كلمة أخرى، فالمرشحة الليبرالية سوزان كروفورد لم تكتف بالفوز، بل تفوقت على منافسها المدعوم من ماسك بفارق 10 نقاط، وأشارت تقارير إلى أن الانتخابات شهدت تدفقاً كبيراً من الناخبين الديمقراطيين الممتعضين من توجهات ماسك. واعتبرت هزيمة ويسكنسن ضربة مباشرة لطموحاته السياسية، من شأنها تعريفه بحدود تأثيره المالي. وكانت هذه الانتخابات القضائية الأغلى في تاريخ الولايات المتحدة، إذ أُنفق أكثر من 90 مليون دولار.
ولم تقتصر تدخلات ماسك على الداخل الأميركي، بل أبدى دعمه للأحزاب المحافظة في أوروبا، ودعا إلى انتخابات مبكرة لإطاحة حزب العمال في بريطانيا، ودافع عن زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبن بعد منعها من الترشح للانتخابات على خلفية إدانتها في قضية اختلاس، كذلك دخل على خط الانتخابات الألمانية وأعلن تأييده حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني، مما دفع بسياسيين ومسؤولين أوروبيين إلى اتهامه بالتدخل في سياسات دولهم.
يحب ماسك أن يعرّف نفسه كـ”صانع حلول” أكثر من كونه رجل أعمال، وهذه النظرة تثبتها ريادته في قطاع السيارات الكهربائية عبر “تيسلا” وفي اكتشاف الفضاء عبر “سبيس إكس” إلا أن انتخابات ويسكنسن أكدت أن ماسك قد يحتاج إلى أكثر من المال ليثبت مكانته كصانع ملوك.