أكثر الدلالات على خطورة الوضع في الجنوب اللبناني، إضافة إلى ميدان المواجهات بين “حزب الله” وقوات الاحتلال الإسرائيلي، هو تسارع الاتصالات الدولية والمساعي والتحذيرات التي تطلقها أطراف عدة من الانجرار إلى حرب كبرى مدمرة للبنان ومفتوحة امتداداً نحو المنطقة.
استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة واتخاذها مسارات قد تؤدي إلى تهجير الفلسطينيين نحو سيناء بعد التدمير الممنهج والإجرامي لكل أشكال الحياة، لا سيما مع نزوح أكثر من 80 في المئة من أهالي غزة إلى عمق الجنوب وعلى الحدود مع مصر، يجعل من الصعب تهدئة جبهة الجنوب مع لبنان، الأمر الذي يبقي احتمال نشوب حرب قائماً في ضوء التهديدات الإسرائيلية وإصرار حكومة بنيامين نتنياهو على إنشاء منطقة عازلة في الجنوب تبعد مقاتلي “حزب الله” إلى شمال الليطاني.
تتركز الاتصالات الدولية على تطبيق القرار 1701، والضغط نحو إبرام اتفاق بشأنه يهدئ الجبهة ويفصلها عن حرب غزة، وبالتالي إبعاد “حزب الله” من الحدود، وهو مطلب إسرائيلي أول جرى التعبير عنه بالرسائل النارية والقصف وأيضاً عبر ما حمله الموفدون الدوليون، ولا سيما منهم الفرنسيون والأميركيون الذين زاروا لبنان أخيراً. لكن هذه الاتصالات لم تثمر حتى الآن، ونتائجها باتت مرتبطة بالميدان، إذ إن “حزب الله” الذي ينفذ عمليات عسكرية ضمن ضوابط على طول الحدود الجنوبية من دون استخدام ترسانته الصاروخية البعيدة المدى، ليس في وارد الالتزام بالقرار 1701 وفق المنظور الدولي أو في أي محاولات لتعديله، ما دامت المعركة مفتوحة ربطاً بحرب غزة.
وبينما باتت جبهة الجنوب منطقة عمليات عسكرية مفتوحة، تذكر بمراحل سابقة لعام 1978 حين كانت المواجهات تدور بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، أشرك “حزب الله” فصائل أخرى من الطائفة السنية بينها “الجماعة الإسلامية” تحت عنوان وحدة الجبهات وللقول إنه مدعوم من الفئات اللبنانية، لكن عملياتها تراجعت، فيما خرجت حركة “حماس” بإعلان تأسيس “طلائع طوفان الأقصى” من الجنوب اللبناني، وهو ما يزيد من تعقيدات المشهد، وينسف نهائياً القرار الدولي ويحوّل لبنان مجدداً ساحة للتجاذبات والفوضى، وهي لا تخدم القضية الفلسطينية ولا تشكل دعماً حقيقياً للداخل الفلسطيني.
وعلى الرغم من بقاء جنوب لبنان حتى الآن جبهة مساندة للمقاومة في غزة وضاغطة ضد الاحتلال الإسرائيلي، إلا أنها مع تطور العمليات العسكرية وامتداد القصف إلى مناطق أبعد، قد تخرج عن قواعد الاشتباك، وتصبح جبهة مشتعلة مستقلة عن غزة، وتؤدي إلى تفجير المنطقة. والوقائع الميدانية والسياسية تؤكد أن جبهة الجنوب لن تعود إلى ما كانت عليه قبل عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، خصوصاً مع ما تعبر عنه الإدارة الأميركية عبر مسؤوليها من قلق شديد للتصعيد بين لبنان وإسرائيل، ويحمّلون “حزب الله” مسؤوليته.
الواضح أن الدول التي تحذر لبنان من توسيع الحرب مع إسرائيل، تنطلق من نقطة أساسية في سياق دعوتها لتطبيق القرار 1701، وهي ضمان أمن إسرائيل بالدرجة الأولى، كمدخل للحفاظ على الاستقرار. ويعني ذلك أنه يجب فصل جبهة لبنان عن غزة، فإذا استمر “حزب الله” في عملياته العسكرية والتي أدت إلى إخراج إسرائيل لمستوطنيها على الحدود قد يؤدي ذلك إلى حرب مدمرة على لبنان، أو أقله حرب على الحزب، سيكون لبنان فيها الخاسر الأكبر.
يتبين من خلال الوقائع على الأرض، أن المعارك المتواصلة في الجنوب منذ أكثر من شهرين، لا تشير إلى أن “حزب الله” بوارد توسيع منطقة العمليات وصولاً إلى حرب مفتوحة، لكن تحول جبهة الجنوب إلى منطقة تماس كسرت كل القواعد التي كانت قائمة في السابق، يهيّئ الأرضية لانزلاق الأمور بفعل حسابات معينة الى تفجير شامل، والأخطر أن تشن إسرائيل حرباً أو أن تستدرج “حزب الله” إليها، مستغلة فرصة ما تسميه الفوضى القائمة التي تهدد مستوطناتها الشمالية، والخطر على الحدود، وذلك لفرض أمر واقع ينتهي بالتدمير ويكرس منطقة عازلة في الجنوب.
وفي هذا السياق، تطرح أسئلة كثيرة عن إبقاء جبهة الجنوب مفتوحة، طالما أن ثمة احتمالات أن ينزلق الوضع الى حرب كبرى، وما إذا كان “حزب الله” مدركاً لذلك، أو أنه يغامر بجرّ لبنان إلى الحرب لحسابات ليست لبنانية ولا فلسطينية بحتة بل إقليمية بالدرجة الأولى. وإذا كان “حزب الله” قد صرح عبر عدد من مسؤوليه أن الجبهة هي مساندة وأن الميدان المتصل بتطورات غزة هو الذي يحدد تحولات الحرب، إلا أنه يضع لبنان أمام وضع صعب عبر ربطه بغزة ويغامر بجرّه إلى الحرب.
الأخطار أيضاً من وقوع الحرب تتمثل في المرحلة المقبلة، حتى لو انتهت حرب غزة، بكيفية تحقيق الاستقرار في الجنوب، وتبريد الجبهة بالعودة إلى القواعد السابقة. فما طرحته الوفود الدولية التي زارت لبنان، وتقدمها التحرك الفرنسي عبر أكثر من موفد، وقبله الأميركي، هو تطبيق القرار 1701، مع إمكان تعديله، لكن تبين أن وضع القرار تحت الفصل السابع غير ممكن في مجلس الأمن، ليتركز البحث مجدداً عن آلية جديدة لتطبيق القرار، خصوصاً بعدما سقط مشروع المنطقة العازلة أو الآمنة الذي طرحته إسرائيل، ولا تزال تضغط للتوصل إلى إبعاد “حزب الله” وسلاحه من الحدود، لإعادة سكان المستوطنات الشمالية إلى منازلهم.
سقط مشروع المنطقة الآمنة، وبدأت تطرح اقتراحات أخرى يروجها الفرنسيون عبر وفودهم بهدف منع الحرب، من دون أن تكون منسقة مع ما يريده الأميركيون لمنطقة الحدود. فتعزيز قوات الطوارئ الدولية (يونيفيل) لا يكفي لوقف العمليات من دون التوصل إلى تسوية للحدود البرية، تبعد سلاح “حزب الله” الثقيل إلى شمال منطقة الليطاني. وهذا الأمر لا يبدو أنه متاح حالياً، إذ إن “حزب الله” ليس بوارد الانسحاب من المنطقة التي يعتبرها ساحته الأساسية. لم تنجح الاتصالات والضغوط أيضاً في ثني الحزب عن الاستمرار بعملياته العسكرية نصرة لغزة. وهو أبلغ الموفدين أنه عندما تتوقف الحرب في غزة من دون أن تتمكن إسرائيل من كسر “حماس”، يمكن أن يعود الوضع إلى ما كان عليه قبل 7 تشرين الأول.
رهان “حزب الله” على أن العمليات العسكرية في الجنوب يمكنها رفد “حماس” بالمساندة وعدم استفرادها، هو سلاح ذو حدين. توريط لبنان وربطه بغزة فتح الأمور على مسارات جديدة، لن يكون ممكناً معها إعادة الأمور إلى الوراء، وهو ما يزيد من مخاطر نشوب الحرب. ويبدو أن الأمر مرتبط بما سيحدده الأميركيون مستقبلاً، إن كان باستمرار الضغط على إسرائيل لمنعها من شن حرب على لبنان، والبحث مجدداً في ملف الترسيم، لكن بطريقة مختلفة لا تبدو واشنطن في صددها تقديم عروض لـ”حزب الله” لعدم الانخراط في حرب كبرى محتملة، ومنها أثمان سياسية في لبنان.
وعلى هذا تركز الإدارة الأميركية على تطبيق القرار 1701 وتعزيز اليونيفيل، وإن كان عبر تعديل مهماتها. أما إسرائيل التي هددت أكثر من مرة، فيبدو أنها تتحين الفرص لتوجيه ضربات لـ”حزب الله” ولبنان تؤدي إلى التفاوض للوصول إلى اتفاق يعدل القرار 1701، ويفرض معادلة جديدة، وذلك على الرغم من أن حسابات أي حرب هي غير مضمونة النتائج.
Twitter: @ihaidar62