يمكن التأريخ للحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، باعتبارها الحرب الأكثر تدميراً وقسوة وبشاعة في حروبها ضد الفلسطينيين، فهي أطول حرب، وقد استخدمت فيها إسرائيل كل أسلحتها، وقصفت الفلسطينيين، من البر والبحر والجو، بعشرات آلاف الأطنان من الصواريخ والقذائف المتفجرة، وبلغ توحشها درجة الإصرار على تدمير كل شيء، المباني السكنية، والبنى التحتية، والمشافي، والمساجد، والمدارس، وأماكن الإيواء، مع قطع الماء والكهرباء والدواء والغذاء، بحيث تصبح غزة مكاناً غير صالح للعيش البشري، مع تعمد تشريد نحو مليوني فلسطيني في العراء، تمهيداً لترانسفير جديد.
وفي الحقيقة فإن هذا الهول لم يشهده الفلسطينيون في النكبة الأولى (1948) ولا في النكبة الثانية في حرب حزيران (يونيو، 1967)، ولا إبان الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)، ولا في كل الحروب التي شنتها إسرائيل على غزة في السنوات الماضية (2008 ـ 2012 ـ 2014 ـ 2021).
لا تفسير لكل ذلك التوحش إلا بالقلق المزمن في شأن وجود إسرائيل، وهو قلق ليس ناجماً فقط عن هجمة “حماس” (7/10/2011)، على أهميتها، علماً أنها الأولى من نوعها في تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، إذ إن ذلك القلق ساكن في قلوب معظم الإسرائيليين، مع “حماس” أو “فتح” أو من دونهما، لمعرفتهم بأن دولتهم قامت على حساب شعب آخر، وبدعم من القوى الخارجية، وأن كل شيء يتوقف على استمرار هذا الواقع الدولي والإقليمي.
أيضاً، تحاول إسرائيل في ذلك التوحش المطلق ترميم صورتها كدولة رادعة، التي انكسرت، لا سيما مع وجود حكومة من اليمين القومي والديني المتطرف، حتى بتعريفات لإسرائيليين ولقادة دول غربية، تسعى إلى صياغة جديدة لإسرائيل، ولدورها في المنطقة. ويأتي ضمن ذلك، بالطبع، شعور هذه الحكومة أن ثمة تغطية سياسية لها لإطلاق يدها في البطش بالفلسطينيين، لتنفيذ أجندتها إزاءهم، لإخضاعهم تماماً إلى هيمنتها من النهر إلى البحر، وتقويض عملية التسوية نهائياً، وتالياً التخلص من الخطر الديموغرافي الذي يشكله الثقل الفلسطيني في قطاع غزة، ما يمكّن إسرائيل من إعادة القطاع إلى سابق عهده قبل انسحابها منه (2005)، في محاولة منها لـ”تصحيح” ما تعتبره خطأً تاريخياً، المتمثل بعقد اتفاق أوسلو (1993) مع الفلسطينيين، إبان حكم حزب العمل (في حقبة رابين ـ بيريز)، والمتمثل بالانسحاب الأحادي من قطاع غزة (2005) في حقبة حزب ليكود ثم كاديما (بقيادة أرييل شارون وإيهود أولمرت).
في نقاش وضعية إسرائيل إزاء قطاع غزة، قد يفيد التذكير بأن عدد الإسرائيليين الذين قتلوا في القطاع منذ احتلاله إلى وقت الانسحاب منه (1967 – 2005)، أي طوال 38 عاماً، بلغ 230 إسرائيلياً (“هآرتس”، 23/8/2005)، بمعدل ستة أشخاص في العام الواحد، قتل منهم 38 إسرائيلياً في الأعوام (1967 – 1987)، أي في عشرين عاماً (نحو شخصين في العام الواحد)، وقتل منهم إبان الانتفاضة الأولى 29 إسرائيلياً، فيما قتل 39 إسرائيلياً منذ توقيع اتفاق أوسلو حتى الانتفاضة الثانية (1993 – 2000)، وفي الانتفاضة الثانية قتل 124 إسرائيلياً (من أصل 1060 إسرائيلياً قتلوا في الضفة وفي مناطق 1948)؛ علماً أن قطاع غزة شكل دوماً قلقاً أمنياً وسياسياً واقتصادياً لإسرائيل، بحكم ثقله الديموغرافي، إلى درجة أن عدداً من قادة إسرائيل طالما عبروا عن تمنياتهم بأن يصحوا وقد غرقت غزة في البحر.
على ذلك، فإن الخسائر البشرية الإسرائيلية لم تكن العامل الأساسي، أو الوحيد، لانسحاب إسرائيل الأحادي من القطاع، وهو أمر كان محل خلاف فيها إلى درجة انشقاق حزب ليكود وقتها (ليكود وكاديما)، بخروج أرييل شارون من ليكود، إذ إن أعداد القتلى الإسرائيليين في الضفة كانت أكبر منها في غزة بكثير، بمعنى أن انسحاب إسرائيل من غزة أتى لاعتبارات خاصة، أي للتخلص من الخطر الديموغرافي الذي تمثله غزة، ولأن الضفة غير غزة، فهي في العقيدة الصهيونية “أرض الميعاد” أو “يهودا والسامرة”، وهي خاصرة إسرائيل ومجالها الحيوي، إضافة إلى أن قطاع غزة منطقة ضيقة، وفقيرة الموارد، ويسهل حصارها، كما حصل؛ أي أن الانسحاب لم يكن كاملاً أو تاماً.
أما بعد ذلك الانسحاب فثمة الاعتداءات الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة، والتي آخرها الحرب الحالية المستمرة منذ شهرين، فرغم صمود المقاومة، باستمرارها في الاشتباك، وفي منع إسرائيل من استعادة أي رهينة أو أسير بالقوة، إلا أن التوحش الإسرائيلي أدى إلى نكبة أخرى، ربما هي الأشد في تاريخ الفلسطينيين، من حيث الخسائر البشرية والمادية، وربما من حيث الخسائر السياسية.
في استعادة للتجربة التاريخية، في قراءة أخرى للأحداث التي أسهمت في إقامة إسرائيل، وفي النكبة الفلسطينية الأولى، يرصد الباحث محمد عزة دروزة خسائر الفلسطينيين (في النصف الثاني من عقد الثلاثينات)، أي في ثورة 1936 ـ1939، على يد الجيش البريطاني، بقوله: “بلغ عدد المعتقلين خمسين ألفاً وعدد الشهداء سبعة آلاف وعدد الجرحى عشرين ألفاً وعدد البيوت المنسوفة ألفين (مذكرات محمد عزة دروزة، بيروت دار الغرب الإسلامي، 1993). وبلغ عدد الأسلحة المصادرة من الفلسطينيين خلال الفترة من 1936 إلى 1940، بحسب المصادر الرسمية البريطانية: 6371 بندقية و3220 مسدساً و1812 قنبلة و425 بندقية صيد.
ولعل تلك الإحصائيات، ومن ضمنها تدمير البنى التحتية للمقاومة، وتصفية قياداتها أو إبعادها، تدلل على أن الفلسطينيين في 1948، أي في لحظة النكبة، كانوا في غاية الإنهاك، ما يفسر قدرة العصابات الصهيونية، حينها، على السيطرة، وتحقيق الغلبة وإقامة كيانها.
القصد أن ثورة 1936، كانت ثورة مشروعة وتعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني، إلا أن طريقة إدارتها ونمط عملياتها، كانا أكبر من قدرة الشعب على الاحتمال، ما أدى به إلى استنزاف قواه، في ظروف صعبة، في مواجهة الجيش البريطاني، ما فوّت عليه فرصة حشد إمكاناته للاستعداد للحظة التاريخية الحاسمة (إقامة إسرائيل)، لمنع إقامة هذه الدولة، أو لتقليل الخسائر التي نجمت عنها خسارة الجزء الأكبر من البلاد، وتشريد ثلثي الشعب الفلسطيني، وهو الأمر الذي تكرر في تجربة لبنان قبل عام 1982، وفي الانتفاضة الثانية.
ثمة فكرتان هنا، الأولى أن الفلسطينيين ظلوا يفتقدون استراتيجية كفاحية جامعة، سلمية أو عسكرية، مدنية أو مسلحة، إضافة إلى افتقادهم رؤية وطنية جامعة، بدليل أن لكل تجمع فلسطيني (في 48 أو في الضفة أو غزة أو في مجتمعات اللاجئين)، أولوياته السياسية والمدنية، وطرقه الكفاحية التي تختلف عن الآخر. أما الثانية، فتفيد بأن ما يمنع الفلسطينيين من تحقيق أهدافهم، أو الاستثمار في بطولاتهم وتضحياتهم، لا ينجم فقط عن غلبة إسرائيل في موازين القوى، إذ هو ناجم أيضاً عن غياب المعطيات الدولية والإقليمية والعربية الحاضنة لكفاحهم، أو المتعاطفة مع حقوقهم، وعدم سماح النظام الدولي والعربي بتمكينهم من أهدافهم.
لا وصفة بديلة لهذا الظلم المحيق بالفلسطينيين، والذي يتنكر لحقوقهم وتضحياتهم، ولصمودهم وبطولاتهم، فأي محاولة لتغيير هذا الوضع تتطلب الاقتصاد بالطاقات الكفاحية وبالموارد البشرية والمادية والرمزية الفلسطينية، وتركيز الجهود نحو تنمية كيانات شعب فلسطين، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وخوض أشكال كفاح أكثر جدوى وأكثر مواتاة، ضد إسرائيل، في صراع طويل، وممتد، ويحتاج إلى توفر العامل الذاتي الملائم، كما يحتاج، بالقدر ذاته، إلى الظروف والمعطيات الدولية والإقليمية والعربية المناسبة.