ما من سؤال يحلو ويجدر الآن قدر السؤال، لماذا حصل ذلك؟لماذا انفجرت الأزمة في سوريا بهذه الصورة المأساوية؟ لماذا انفجرت أزمات المنطقة ومازالت تتداعى انفجاراتها فصولاً منذ عقد ونيّف؟ وهل صحيح أن إسرائيل، كما يصور البعض، وحدها السبب وفيها تتجلى علَّة العلل، وأن اصابعها في كل مكان من عالمنا العربي، وأنها المحرك حتى في أزمة السودان المندلعة حالياً؟ وأنها كانت خلف الحرب الأهلية التي شهدتها الجزائر في تسعينات القرن الماضي؟

وهل قرار مضاعفة سعر الأدوية وأسعار الفروج، وانتشار سعير الهجرة من كل الأعمار إلى خارج البلاد، وانسداد الأفق بحلم توفُّر شروط العيش المتواضع، مناخ هو الآخر قد طُبِخَ في إسرائيل. وعليه وعلى أي نَحوٍ سارت عليه مقاربة واقع المجتمع السوري والحالة الوطنية العامة؛ سنجد في اللوحة إلى جانب إسرائيل، وربما ما هو أخطر من إسرائيل.

سنجد البيئة الخَرِبَة التي في مناخها نشأت واشتدَّ عودها إسرائيل، ونجد الدولة النمطيّة الفاشلةالتي جعلت مواطنها يعيش حياة بائسة ويكابد ظروف الخوف والجوع والتشرد والاغتراب.

الدولة النمطية ذات الأجندات القومية والعقائدية الظاهراتية الكبرى، التي بررت وجودها بأنها حاملة هموم نبيلة كُبرى، ليس غير أقلها دحر إسرائيل وتوحيد العرب وإعادة أمجادهم. وتحت هذا السقف المرتفع من المهام الوطنية والتاريخية؛ لم تَبن أية دعائم اجتماعية أو شعبية تعبوية حقيقية، بل استعاضت عن كل المستلزمات الموضوعية بأدوات صوتية وضجيج عالٍ من الكلام والتسطيح وتسخيف الأدوات، بالموازاة مع تسهيل انتشار الفساد وتعميق سطوة القمع.

وبتتّبع ظاهرة الدولة ذات الهوية القومية والتي عرفتها منطقتنا بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد حصول أغلب الدول على استقلالها، يمكن تقسيمها إلى مرحلتين:

المرحلة الأولى:

كان النفوذ فيها للبرجوازية الوطنية، وشهدت فيها الحياة السياسية شكلاً من أشكال الحريات الدستوريةوانتعشت في ظلها الأحزاب والنقابات ونما إلى حَدٍّما نوع من مجتمع مدني.

والمرحلة الثانية:

تميزت بسيطرة أحزاب من جذور برجوازية صغيرة ونخب عسكرية، نجحت خلال تراكم انزياحات وانقلابات عديدة، بتكريس نموذج دولة الشمول والاستبداد ذات الهوية القوميةوالنهج المعادي للديمقراطية، حيث صادرت الحريات السياسية وقوَّضَت كل إرث الشعب السوري من تراكمات الحياة الدستورية ومظاهر المجتمع المدني. وفي الطريق إلى تسويق نفسها وشرعية وجودها؛استنَّت دستوراً يليق بها وبدولة الاستبداد والديكتاتورية، عدَّلته مرات عديدة ليصبح على شكلها ويبرر تفردها واستحواذ نخبها على موارد البلاد ومصيرها، وتحولت في النهاية إلى دولة قسريةتُكرِهُ الجميع بالخضوع لإرادتها والانصياع لمفاهيمها، التي لم ينمُ تحت سقفها غير الفساد والمحسوبية والجوع  والفوضى.

هذا ضمن ما صنعت يداها في البناء التحتي،أما في البناء الفوقي؛ فلم تفسح في المجال لأي قيم فكرية أن تأخذ طريقها إلى أذهان الجماهير غير فكرتين؛الفكر القومي العربي ضمن اللبوس الشوفيني الضيق، والذي بموجبه،  والحق يُقال، قد أكره السوريين جميعاً، وعلى اختلاف أعراقهم، على تقمص العروبة هوية.

والفكر الإسلامي، الذي وحده من كان يملك منبراً مفتوحاً طوال الساعة، وفَّرَتهُ مُكرَهَةً الدولة الشمولية المركزية القومية الهوية وشديدة العقائدية، تمثل ببناء وإطلاق حرية الحركة لعشرات ألوف المساجد على مساحة البلاد. فهذا النموذج للدولة انفجر أخيراً تحت ضغط تناقضاته الداخلية،ودشن حرباً أهلية بدأت فصولها ولم تنتهِ بعد. ولأنه في الخلفية؛فإن أي نظام اجتماعي تكثر الخروقات عليه، تقول قوانين الحياة إن العيب فيه ويجب رميه على قارعة الطريق، نخلص إلى حقيقة لاجدال حولها؛ أن السوريين بجميع مكوناتهم أمامهم مخرج واحد من أزمتهم المستعصية، وملزمين بالولوج فيه.

مخرج مقوماته تبنى على التعاقد فيما بينهم على عقد اجتماعي وَسَطٍ جديد، يوحّدهم حول مشتركات أساسية ويتجاوز في قواعده الأساسية،أو يقدّم مخارج للقضايا الخلافية ولمَواطِنِ الغبن التي كشفتها التجربة ولعبت دور العامل الممرّض في حياة الدولة والمجتمع.

تصل بنا هذه التوطئة، وكما تشير الوقائع وتجارب الدول والمجتمعات التي مرت بمحطات ومعضلات وشروخ اجتماعية شبيهة، أن عوامل الأمراض والتعافي لم تكن خارج دائرة الهوية الدينية والعرقية ودور المركز، هذا الثالوث الجهنمي الذي كان على الدوام مفتاح الفتن والاصطراع داخل الدول والمجتمعات، وكان التعافي من غلوائه بمثابة حجر الرحى في بناء دولة المواطنة العصرية العادلة والقوية التي تظلل كل مكوناتها.فدين الدولة وهويتها القومية،أو طبيعة أعراقها ومركزيتها، كانت، وبما لا يدع أي مجال للشك، مرض سوريا والسوريين خلال العقود الماضية، وليس من العقل أو المنطق في شيء إسناد أي مكان لها في أي دستور قادم.

وإذا كان الدستور،أي دستور وفي أية دولة، هو أبو القوانين أو القانون الأساسي العام، الذي من مهامه تحديد شكل الدولة، رئاسية أو ملكية، وشكل الحكومة، برلمانية أو رئاسية أو مختلطة، ويفصل بين السلطات، ثم تُستَنُّ القوانين الأدنى بالتبرع عنه، وتُقاس شرعيتها بدستوريتها أو بانسجامها معه، فيصبح من ناقل القول إن من محصنات الدستور السوري المرتقب أو الذي ينتظر التوافق عليه هو مواده العليا،أو ماتسمى بمواده “فوق الدستورية” والتي لا تحتمل المساس بها أو التعديل عليها، ولأن مجرد الإخلال بواحدة منها يعني التطاول على الدستور وتفويض وحدة البلاد.

ورغم أن دولاً عديدة في العالم تلجأ إلى الاستفتاء العام أو إلى التصويت بالأغلبية المطلقة، حينما تضطر لإجراء تعديلات فيما يمس المواد فوق الدستورية، ما يعني أنها قواعد الدستور الأساسية والركن المهم في وحدة الدولة.

فهذه الإضاءة على موقع المواد فوق الدستورية هو بقصد الإحاطة بماهيتها وتحديدها بالضبط في دستور الدولة السورية الجديدة، التي يمكن أن تنهض من ركام الحرب والضياع بين مصالح الدول المتنافسة والأطراف الطامعة على الملعب السوري، الأمر الذي يفيد أنه من البديهي أن تكون المواد الأساسية وفوق الدستورية في العقد الاجتماعي السوري المنتظر، والتي يجب فيها التأكيد:

أولاً:

على “العلمانية” كي نصل إلى دولة المواطنة الرئيسية، دولة يتم فيها الفصل الكامل بين الدين والدولة، وبين الدين والمدرسة. وهنا يجب أن يكون واضحاًأن العلمانية لا تعني الإلحاد أو نفي التديّن كما يتوهم البعض أو يُشاع أحياناً، بل يمكن لجميع الأفراد أو الجماعات أن تمارس طقوس العبادة التي تعتقد بها بكامل الحرية، دون التدخل في قناعات الغير أو محاولة تغيير اعتقاداتها، من هنا جاء في تعريف العلمانية فصل الدين عن الدولة والمدرسة الرسمية في الدولة.

ثانياً:

وتأتي بعد ذلك ضمن رزمة الأولويات فوق الدستورية، وفي الحالة السورية التي نحن بصدد تحديد توازنها؛  تحييد الهوية السورية عن أي نزعة قومية أو عرقية، بمعنى أن سوريا القادمة ليست عربية بهويتها الشاملة، وليست كردية أو تركمانية، وليست موصَّفة بأي صفة غالبة، وهذا بدوره لا يعني أيضاً القطع مع الخصائص القومية أو الثقافية لأي واحد من مكونات الشعب السوري، بل يبقي الدستور الحق لجميع المكونات في أن تدرس تاريخها وتعتزَّ بثقافتها ولغتها، دون محاولة فرض نموذجها الثقافي وخصائصها القومية ومعتقداتهاعلى غيرها من المكونات الأخرى.

ثالثاً:

أما مثار الجدل الأبرز الآن؛ فيدور حول مركزية الدولة من عدمها.هذه المسألة التي أوحت تجارب الماضي في الحالة السورية،أن المركزية لم تكن على صواب دوماً، ولم تنجح بتلبية متطلبات العدالة وحسن الإدارة وشروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأن يقوم كل إقليم بإدارة قضاياه الخدمية وأن ينهض بنشاطاته الاجتماعية،أو يضطلع بمهامه الإدارية والتنموية، لأنه الأقدر والأعرف بأوجاعه، وترك قضايا السياسة الخارجية والدفاعية، وقضايا الأمن والتخطيط الاقتصادي وإدارة الموارد للمركز أو لسلطات العاصمة التي ستكون منتخبة من الأقاليم، يعد في تجارب الدول المتطورة أيضاً هو الطريق الأفضل لتحسين وظيفة الدولة في رعاية المجتمع والأكثر فعالية لتقديم الخدمات والرعاية لمواطني الدولة.

وفي الختام لامناص للسوريين إذا شاءت المعادلات الدولية أن تمنحهم الفرصة في اختيار طريق خلاصهم من التوافق على عوامل بناء سوريا جديدة، مدنية، ديمقراطية، علمانية ولامركزية.