يحظى نهر النيل بدور كبير في حياة شعوب دول حوضه وروافده، وشكلت مياهه ركيزة أساسية في نهوض وازدهار حضاراتها، وخاصة الحضارة المصرية القديمة، وذلك نظرًا إلى إسهامه في ريّ وتخصيب التربة الزراعية، واستخدامه من قبل المصريين القدماء في نقل المواد والبضائع. وقد وفرّ نهر النيل، الذي يتدفق شمالًا على طول مسافة 6695 كم من وسط أفريقيا حتى البحر المتوسط، فائدة كبيرة للناس الذين عاشوا على طول ضفتيه وروافده، وكان عليهم التوصل إلى طريقة تمكنهم من التعامل مع فيضان النهر السنوي، فطوروا مهارات وتقنيات جديدة بدءًا من الزراعة حتى بناء السفن. وأسهم النهر أيضًا في يناء صروح الحضارة المصرية الرائعة، فضلًا عن تأثيره العميق في نظرة المصريين القدماء لأنفسهم، وصياغة دينهم وثقافتهم. وفي هذا السياق، يتتبع تارييه تفايت، أستاذ في قسم الجغرافيا بجامعة بيرغن في النرويج، في كتابه “النيل… نهر التاريخ” (ترجمة منة الخازندار، القاهرة، دار العربي، 2024) تفاصيل رحلة نهر النيل من المصبّ إلى المنبع، كاشفًا بعض أسراره، ومبينًا دوره وأهميته فيما يخص حياة الناس والتنمية المجتمعية وفهمها، وذلك في سياق سرد تاريخ هذا النهر والتعرف على تنوعه الهيدرولوجي والثقافي والسياسي.
ينطلق المؤلف من دراسة العلاقة بين المياه والمجتمعات وفق منظور مقارن وطويل الأمد، الذي ينظر في تأثير المياه على تطور المجتمعات، وفي حاجة المجتمعات إلى المياه للنمو. ويتمحور الهدف من كتابه حول تبيان الدور الذي لعبه النيل في التاريخ القديم، والدور الذي يلعبه في الحاضر بأكبر قدر ممكن من التكافؤ والحيادية، خاصة وأن الفهم الكلي والشمولي لأهمية النهر، وعلى المدى الطويل، يجسد شرطًا أساسيًا لجعل النيل الأكثر إثارة للاهتمام تاريخيًا، ولاستمراره في لعب دوره المهم والإيجابي في التنمية الإنسانية.
سبق أن كتب بعضهم عن تاريخ النيل، خلال الحقبة التي كانت مصر قابعة تحت سيطرة الاستعمار البريطاني، وما بعدها. ونشرت العديد من الدراسات الببليوغرافية المتعلقة عنه، إضافة إلى مجموعة أخرى من الكتب، لكن ما يُميز كتاب تفايت هو الاهتمام المختلف بتاريخ النهر، والمنظور الشامل، وتقديمه الكتاب في صيغة رحلة طويلة، مع تأكيده على أن ما يحدث بشأن النيل وعلى طول ضفافه في عصرنا الراهن، وما سيحدث في الأعوام القادمة، ستكون له تداعيات وخيمة تؤثر في سياسات الإقليم وفي السياسات العالمية. ذلك أن نهر النيل، يمرّ متدفقًا خلال تضاريس الطبيعة ومتضافرًا في المجتمع، بأكبر تحول شهده على مدار تاريخه الطويل، لذلك تصبح المعرفة التاريخية بالغة الأهمية، من أجل تفسير ما يحدث راهنًا على نحو صحيح.
يبدأ المؤلف رحلته من لوحة “فسيفساء النيل”، المعروضة في متحف بلدة بالسترينا الإيطالية، التي تمثل عملًا فنيًا يبلغ عمره حوالي 2000 عام، ويصل عرضه إلى ستة أمتار، فيما يتجاوز ارتفاعه أربعة أمتار، ويصوِّر نهر النيل ومظاهر الحياة على ضفتيه، وضفافه وروافده، حيث يصور الجزء العلوي منه عناصر أفريقية، أما الجزء السفلي فيحاكي مناظر من الحياة على شواطئ البحر المتوسط. والأهم أن هذه اللوحة لا تصوّر النيل فقط، بل الشعوب وهي تمارس حياتها، مبرزة المكانة المحورية التي يشغلها النيل في حياة أولئك البشر الذين يعيشون على ضفافه، وتُذكر بماض سحيق كان يُعبَد فيه النيل كنهر مقدس. ولم تقتصر عبادته على الكهنة في المعابد الضخمة المنتشرة على ضفافه في مصر، بل امتدَّت إلى أنحاء من أوروبا أيضًا. وقد ولدت “فسيفساء النيل” في العهد الذي انتقلت فيه عبادة النيل والإلهة إيزيس من مصر إلى العالم الهليني والروماني، حيث مثَّلت عبادة النيل دينًا غامضًا اهتمَّ بفكرة الموت والبعث، وتمحور حول المواكب والطقوس والشعائر المهيبة التي أدت فيها مياه النيل دورًا محوريًا.
تارييه تفايت (يمين) خلال ندوة عن الكتاب في مصر
أرتبط اسم نهر النيل بالشاعر الإغريقي هسيودوس الذي عاش في الفترة ما بين عامي 700 و600 قبل الميلاد، ووقتها اشتركت كل من مصر والدلتا واليونان في الانتماء إلى ثقافة البحر الأبيض المتوسط المشتركة، حيث أطلق هسيودوس على النهر اسم “نيلوس”، الذي يعني الكلية، وكأنه أراد التأكيد على أن هذا النهر كان يُنظر إليه بوصفه يمثل كل شيء في ذلك الزمن. وقد قيل إن الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر سينزل على الفور عن مُلك مصر بأكملها لمن يخبره عن مكان منبع نهر النيل. وكانت كمية المياه التي تفيض كل صيف محل تساؤل عن المكان الذي تأتي منه، لتجعل الصحراء الحارقة أحد أكثر الأقاليم خصوبة على وجه الأرض.
يسرد المؤلف بشكل مفصل تضاريس بداية النيل ونشأته وكيفية تطور صورته في عيون البشر الذين عاشوا حول ضفافه على مرّ التاريخ، والحضارات التي نشأت وازدهرت بسببه، ثم يذكر أشهر من تأثروا بالنيل وقوته، مثل الإسكندر الأكبر، ورحلة هروب السيدة العذراء والمسيح إلى الدلتا، ثم انتشار الإسلام في مصر ورسالة الخليفة عمر بن الخطاب إلى النيل، ثم يتوقف عند حملة نابليون بونابرت على مصر، والصراع بين الاستعمارين الفرنسي والإنكليزي للسيطرة على مصر، واهتمام المستشرقين والرحالة الأوروبيين باكتشاف منابع النيل، ولم ينس تذكر الكثيرين الذين ماتوا من دون أن ينجحوا في مسعاهم. وينتقل بعد ذلك إلى التطرق لأسباب وأصول كل المشكلات التي يواجهها البشر الذين يعيشون على ضفاف النيل، بدءًا من دولة المنبع، أثيوبيا، وصولًا إلى دولة المصب، مصر، حيث يرى تفايت أن بريطانيا سعت منذ البداية إلى شيء واحد فقط، هو حماية مصالحها الاقتصادية في مصر، لذلك بدأت جهودها من أجل احتلال الدول الواقعة على ضفاف النيل والسيطرة عليها. وينتقل تفايت بعد ذلك إلى أثيوبيا، والدول المحيطة بها مثل السودان، وكينيا، والكونغو، وتنزانيا، وإريتريا، ليقدم شرحًا لتاريخ الصراعات التي أشعلت هذه الدول، التي كانت بشكل أو بآخر بسبب الاستعمار البريطاني.
“جرى اكتشاف مدن تحت مياه البحر المتوسط في الغرب من ساحل مدينة الإسكندرية، ما يعني أن تأثير الفيضان وتراجعه أفضى إلى تآكل الساحل الشمالي في مصر”
يعتبر تفايت أن النهر هو نتاج تغيرات جيولوجية حديثة نسبيًا، إذ يتراوح عمره بين 15 إلى 20 ألف عام، ويحتل الترسيب النهري مساحة تقدر بثلاثة ملايين كيلومتر مربع، أي ما يعادل ستة أضعاف مساحة فرنسا. ويأتي رافد النيل الهام، النيل الأبيض، من بحيرة تانا في وسط أفريقيا، وبالرغم من أنه يوفر 15% فقط من محصول النهر لمصر إلا أنه يتسبب في انسياب المياه طوال الفترة التي تتوقف فيها المياه القادمة من النيل الأزرق القادم من الحبشة، حيث يمنع استمرار تدفق المياه بطريقة هيدرولوجية من النيل الأبيض طوال فترة الفيضان، فترتفع المياه فيه لتغذي مصر طوال العام، وبذلك يتمكن الفلاحون من الزراعة طوال أشهر العام. ويبلغ متوسط إنتاج مياه نهر النيل ما يقارب 84 مليار متر مكعب عند قياسه في مدينة أسوان، وتعتبر كمية قليلة كونها تمثل 12% إنتاج نهر اليانجتسي فى الصين و6% من تدفق نهر الكونجو و1% من نهر الأمازون. وقد أظهرت متون الأهرامات المصرية أن العبور من ضفة النيل الشرقية إلى ضفته الغربية يمثل العبور من الحياة إلى العالم الآخر بالنسبة لقدماء المصريين، حيث كانت الحياة في الشرق، والمدافن، ومن ضمنها الأهرامات، في الغرب. وجرى اكتشاف مدن تحت مياه البحر المتوسط في الغرب من ساحل مدينة الإسكندرية، ما يعني أن تأثير الفيضان وتراجعه أفضى إلى تآكل الساحل الشمالي في مصر. ويحكى تاريخيًا أن رحلة لكليوباترا ويوليوس قيصر عبر النيل كانت محاطة بأربعمائة زورق. أما محمد علي فكان أول حاكم لمصر يهتم بنهر النيل ويقدر أهميته، حيث بدأ بتدشين ترعة المحمودية التي تصل النيل بالإسكندرية عام 1818، وقام ببناء القناطر الخيرية التي أسهمت في زيادة المساحات الزراعية، ونظم محمد علي رحلة زرافة من مدينة سنار شرق السودان عبر النيل إلى الإسكندرية ثم إلى أوروبا، وكان في استقبالها في مدينة مارسيليا 30 ألف فرنسي.
لا يغيب عن الكتاب تبيان مكونات الطبيعة في منطقة البحيرات والعدد الهائل من حيوانات فرس النهر والتماسيح على الشاطئ والحيوانات الضخمة والمفترسة، التي أجبرت القدماء على الدخول في أقفاص حديدة وضعوها على قواربهم لحمايتهم. ويورد تفصيلًا عن الدول التي تحيط بالبحيرات، ثم يتحدث عن عرض بريطانيا على المؤتمر اليهودي الذي ترأسه هرتزل بإنشاء وطن قومي لليهود في أوغندا وكينيا عام 1903 عند منابع النيل، لكن المشروع رُفض. ولا ينسى احتلال ألمانيا لتنزانيا وجزء من منابع النيل عام 1885، ثم طردها من قبل بريطانيا في بداية الحرب العالمية الأولى.
أخيرًا، يتناول الكتاب تاريخ وتطور الحضارة، وينتمي إلى أدب الرحلات السردي الذي يحكي عن قصص يرويها حول أطول نهر في العالم. وفي الوقت نفسه، يُعتبر دراسة عن السياسات المائية الحديثة والتنمية الأفريقية ومتغيراتها، لكنه يقدم سردًا تاريخيًا لشريان حياة، يربط ما يقارب نصف مليار إنسان معًا بمصير مشترك. ويبقى أنه على الرغم من محاولات الاستعمار إثارة المشكلات والانقسامات بين شعوب ودول حوض النيل إلا أن المسؤولية لا تقع على حكومات وأنظمة دوله التي يمكنها أن تتوقف، وتتخلص من إرث الاستعمار، عبر الأخذ بفكرة التعاون، بدلًا من الاقتتال والصراع، والتفكير في استغلال مياه النهر بطرق لا تضر الشعوب في بلدان حوضه وروافده.
عنوان الكتاب: النيل… نهر التاريخ المؤلف: تارييه تفايت المترجم: منة الخازندار