ملخص
قدم ترمب عدة تنازلات لبوتين من أجل تحقيق “إنجازات كبيرة” مثل تقليص الوجود الروسي في أوروبا، إلا أن بوتين استغل سذاجة الرئيس الأميركي، وعاد ليتراجع عن وعوده. بعد اكتشافه الخداع الروسي، انفجر ترمب غاضباً، لكن دون تغيير حقيقي في مسار الأحداث أو مواقف الأطراف.
غرور الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي يضاهي من حيث حجمه “برج ترمب” نفسه في وسط مدينة نيويورك، جعله يتعامى لأسابيع- إن لم يكن لأشهر- عن حقيقةٍ كانت واضحةً تقريباً بالنسبة إلى الجميع، وهي أن الزعيم الروسي فلاديمير بوتين كان يتلاعب به بمهارة طيلة الوقت.
ترمب، الذي بدا مسحوراً بالزعيم الروسي، قدم لصديقه كل ما أراده: الهيمنة على أوكرانيا باستثناء بعض المصالح الأميركية في معادنها الثمينة، قيام منطقة نفوذٍ روسية في أوروبا، والتخلي عن “حلف شمال الأطلسي” (ناتو) وحلفاء آخرين. كل ذلك مقابل وعود بتقليص روسيا ترسانتها النووية، ومنح الأميركيين فرصة الاستحواذ على كل من غرينلاند وكندا (وهما، بطبيعة الحال، ليستا ملكاً لروسيا لتمنحهما، ولن يحدث ذلك أبداً).
بدت هذه الصفقة وكأنها “الإنجاز الكبير” الذي كان ترمب يسعى إليه، في حين أن فلاديمير بوتين بالغ في تقدير أوراقه وتجاوز حدوده.
في هذا التقاسم شبه المافيوي للعالم، على رغم أن الصينيين لم يفرضوا أنفسهم بعد، أدرك ترمب بطريقة ما أن من يخدعه ليس فولوديمير زيلينسكي، بل بوتين نفسه. أما رد فعله عندما تجلّت له هذه الحقيقة البديهية، فكان كما هو متوقع منه: متسرعاً، وفظاً، وعلنياً.
ففي إحاطة هاتفية نادرة مع أحد صحافيي شبكة “أن بي سي” الأميركية، أقر دونالد ترمب بأنه “غاضب” و”منزعج بشدة” من فلاديمير بوتين، متعهداً بالتحادث معه ومواجهته بذلك لاحقاً.
المفاجأة التي لم يكن من الصعب توقعها، أن الزعيم الروسي نكث بمجمل الوعود التي قدمها لترمب، وتراجع عن كل ما جاء في ما يُسمى بمؤتمر السلام في المملكة العربية السعودية (الذي كان في الواقع أشبه بمراسم استسلامٍ مطولة بالوكالة عن أوكرانيا).
لجأ بوتين إلى المناورة والخداع والتضليل لتحقيق مكاسب ميدانية أكبر من خلال المعارك، مستغلاً سذاجة ترمب الطفولية. كان مشهداً مثيراً للشفقة بحق.
أما ترمب فذهب كعادته إلى حد وصف زيلينسكي بأنه “ديكتاتور بلا انتخابات”، ملمحاً إلى استعداده للتخلي عن الزعيم الأوكراني المنتخب ديمقراطياً بنفس السهولة التي قد يُقصي بها نائباً جمهورياً مزعجاً من حزبه. لكن عندما تجاوز بوتين حدوده، مطالباً بإدارة “مؤقتة” تابعة للأمم المتحدة في كييف، بهدف إضفاء الطابع الرسمي على اتفاق سلامٍ مهين، انفجر شيءٌ ما أخيراً وفقد ترمب أعصابه.
هل سيتغير شيء؟ على الأرجح لا.
شعر الروس بأنهم بالغوا في تجاوزاتهم وذهبوا بعيداً فيها، وبدأوا في التراجع بمكر، لكنهم أبقوا على خياراتهم مفتوحةً على طاولة المفاوضات. فقد أكد ديميتري بيسكوف (المتحدث الرسمي باسم الرئيس الروسي)- الذي يبدو وكأنه قادم من حقبة الاتحاد السوفياتي- للصحافة العالمية، أن روسيا لا تزال “متعاونةً مع الجانب الأميركي في ما يتعلق بالسلام في أوكرانيا”، وأن “بوتين لا يزال “منفتحاً على الحوار مع ترمب”.
ومن المؤكد أنه كذلك- في انتظار إعادة خداع “ضحيته” وإعادته إلى حيث يريده في هذه اللعبة الكبرى من الخداع.
يبدو أن الطُعم الجديد يتمثل هذه المرة في ترتيب صفقةٍ أكثر ربحيةً للولايات المتحدة تتعلق بالموارد الطبيعية الأوكرانية، وربما يُحسّنها بضمان أنه، حتى لو غزت روسيا جارتها في وقتٍ لاحق، ستبقى المصالح الأميركية هناك مصانة، وستواصل العمل كالمعتاد في ظل سيطرةٍ روسيةٍ على ما كانت تُعرف سابقاً بأوكرانيا مستقلة وذات سيادة.
من البديهي أن ذلك سيجعل أي بُعد أمني للصفقة عديم القيمة تماماً. إذ سيواصل الموظفون والتنفيذيون الأميركيون استخراج الليثيوم والكوبالت من التربة السوداء الأوكرانية، بغض النظر عن السيادة الفعلية للبلاد.
للأسف، يعيد هذا الوضع التذكير بـ “ميثاق مولوتوف- ريبنتروب” Molotov-Ribbentrop Pact (فياتشيسلاف مولوتوف كان وزير خارجية الاتحاد السوفياتي وجواكيم فون ريبنتروب كان وزير خارجية أدولف هتلر) الذي قسم بولندا بين الزعيمين السوفياتي جوزيف ستالين والألماني هتلر في عام 1939- مقارنة تاريخية قد يجدها بوتين وترمب ممتعة في السر.
أما فكرة إدارة أوكرانيا من قبل الأمم المتحدة، التي أثارت غضب ترمب، فسيتم إسقاطها بهدوء. لن تكون هناك عقوبات أشد على النفط الروسي، وسيواصل الكرملين استخدام الأميركيين للحصول على ما لا يستطيع كسبه في ساحة المعركة.
على هذا النحو سيسترضي بوتين ضحيته من جهة، ويواصل من جهةٍ أخرى الهدم التدريجي والمؤلم لأوكرانيا، وستُترك أوروبا تطرح علامات استفهام عن سبب ازدراء الولايات المتحدة لها، وتتساءل متوجسة: “من التالي؟”.
الجواب بالطبع هو: أوروبا. فالطموحات الإقليمية التوسعية لفلاديمير بوتين لا حدود لها. والغريب أن دونالد ترمب يبدو وحده عاجزاً عن إدراك ذلك.