يقول الكاتب الليبي الراحل يوسف القويري إنّ المجتمع المُنغَلِق يُلقي بطلائعِه المثقفة إلى المنفى النفسي. ما يقصده القويري هُنا هو حالة العُزلة النفسية التي يعيشها المثقف في مجتمعه الذي يراه كائناً غريباً عليه. وقد عاشَ الرجل في عزلةٍ عظيمةٍ، مع أنّه كان من أهمّ المفكّرين التقدميين في البلد في الستينيات، وعندما تُوفيَ سنة 2018 لم يجد في جنازتِه إلا بضعةِ مشيّعين ممن رافقوه وأحبوه. أي أنّه عاشَ ومات على مقولتِه في عزلةٍ شديدةٍ أثّرت حتى على مسارِه الإبداعي في آخر حياتِه، فهو لم يكتب كثيراً في آخر سنين عمره.
كثيرون في عالمنا يسعون نحو العزلة لأسبابٍ شتّى منها السياسي أو الديني أو الاجتماعي، ولا تزال هناك مجموعات بشريّة تعيشُ في عزلةٍ تامةٍ عما يجري في العالم. مقالاتُ الفِراتْس هذا الأسبوع تتقاطعُ كثيراً في تناولِها هذا القلق الإنساني الذي ابتدأ معنا منذ خلقِ آدم.
ففي إسبانيا عملت مملكة قشتالة وأراغون منذ سقوطِ غرناطة سنة 1492 على عزلِ رعاياهم من مسلمي الأندلس عن هُويّتهم الممتدة قروناً على شبه الجزيرة الإيبيرية. ورأت النخبُ الدينية والمثقفة المورَ، أي الأندلسيين من أصول شمال إفريقية، عنصراً خبيثاً يفسّدُ التجانس الديني والاجتماعي في الأندلس فسعت إلى تطهيرِها من آثارِه وأفكارِه إمّا بالطردِ أو بالتنصير التام. يتحدث الكاتب التونسي أحمد محجوب في مقالتِه عن أثرِ قرونٍ من الاستعرابِ الإسباني في رؤية الإنسانِ الإسباني لنظيره العربي والمسلم، ولاسيما الموري، عززتها مشاركة المغاربة في الحربِ الأهلية الإسبانية ثلاثينيات القرن الماضي. وما زلنا نجدُ شوائبَ منها علقتْ حتى هذا اليوم في المقررات الدراسية، ليجد الإنسان الأندلسي المعاصر نفسه منعزلاً عن هُويّتِه الثقافية وتاريخه الذي اختلطتْ فيه الثقافة العربية والأمازيغية والأوروبية.
يعيشُ أهالي المفقودين في سوريا حالةَ عزلةٍ نفسيةٍ شديدةٍ. تكتبُ لنا ماريا عكيدي، وهي كاتبة سورية واستشارية أسرية، أنّ عشرات آلاف العائلات السورية تحتشد على أبوابِ سجون نظام الأسد، تبحثُ عن أدلةٍ تشير إلى مصير الآلافِ الذين فُقِدوا أثناء الحرب. وتحاول مارية شرحَ مصطلح “الفقدان الغامض” لمن فقدوا ولا توجد أدلّة عن مصيرهم، وكيف يتجمدُ ذووهم في حالةٍ من الألمِ والأمل، وتسردُ لنا تجربتيْن مختلفتيْن تجتمعُ فيهما العزلة النفسية عن المجتمع، واحدة للسيدة غالية التي فقدت زوجها في 2012 ودخلت هي وأبناءها في رحلةٍ من العذابِ بين البحثِ والتقصّي التي ما إن تخفتُ بالتسليم بموتِه حتى يشتعلُ فيها الأمل بوصولِ أخبارٍ عنه، فظلّوا معلّقين بهذا الحبل. أما التجربة الثانية فتجربة وفا مصطفى التي فُقِد أبوها، فقررت ألاّ تنتظرَ الأخبار تأتيها، بل تدافع عن قضيةِ المفقودين وترفضُ الاستسلام لفكرةِ أنّ والدها قد ماتَ دون وجودِ دليلٍ قاطعٍ عن ذلك حتى إنّها ترفضُ أخذ العزاءِ فيه. قررت وفا، كما تقول للفراتس، أن تتسلح بالتذكر كأن تكتب عن والدها كل يوم. فتقول: “بكل صدق، حتى عندما يقول لي الناس ‘رحمه الله’، لا يستطيع عقلي استيعاب ذلك”.
عزلت النخبة الحاكمة في مصرَ نفسَها عن المجتمع الذي تحكمه منذ سيطرةِ الفاطميين على القاهرة، فأنشأ الحكّام الجدد على مرِّ القرونِ قلاعاً وقصوراً بعيدةً عن المصريين. يتحرّك بنا حسن حافظ، باحث تاريخ مصري، عبر هذا التاريخ الطويل بدءاً من مشهدِ عرضِ القصر الرئاسي في العاصمة الإدارية الجديدة، وكيف خلقت مشاهد الأبهّة جدلاً في مصر بين من يراها ترفاً لا يعطي اعتباراً للتحديات الاقتصادية ومن يراها تعبيراً عن قوةِ مصر حسب تعبير الرئيس عبدالفتّاح السيسي. ومنها يحكي لنا تاريخَ الطبقة الحاكمة في سعيِها لعزلِ نفسِها عن المصريين في الحصونِ والقلاع حتى القرن التاسع عشر عندما جاء الخديوي إسماعيل إلى الحكم وأراد تطبيقَ نظام القصور الفرنسية فأنشأ قصر عابدين والمنطقة المحيطة به. ومع زوالِ التحصينات ظل الحاكم المصري منعزلاً عن المجتمع لأنّ المصري البسيط لم يتجرأ على الاقترابِ من عابدين، فظّل الأمر على هذا الحال حتى أمسك الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بزمامِ الحكم فحكمَ من بيتِه، لكن هذه التجربة لم تدم طويلاً حتى عاد الحكّام إلى التحصّن من ثورةٍ محتملةٍ للشعبِ ورغبةِ الطامحين بالحكم في قصورٍ عظيمةٍ آخرها، أي القصر الرئاسي الجديد، يعظم مساحة البيت الأبيض في واشنطن بعشر مرات.
يعيشُ الحشدُ الشعبي في العراق حالةً شبيهة بالعزلة بعد سقوطِ نظامِ الأسد في سوريا وخروج حزب الله اللبناني منهكاً من الحربِ مع إسرائيل، أضف إلى ذلك حالة الاحتقانِ الشعبي عند الشباب العراقيين من الشيعة على النخبة الحاكمة. بدأت نقمة الشباب مع ثورتهم سنة 2019، إذ رأوا فساد الطبقة السياسية وضمّوا إليها فصائل الحشد التي كانوا يرون فيها حامي العراق من تنظيم الدولة. يحدّثنا الصحفي العراقي محمود النعيمي عن المسارِ الذي أخذته فصائل الحشد الشعبي منذ تأسيسها وكيف تمكّنت أن تصبح قوةً فاعلةً سياسياً وعسكرياً في العراق، لكنه يذهب أبعد من ذلك ليخبرنا كيف وجدت نفسها تواجه انتقادات قادة شيعة مثل السيستاني ومقتدى الصدر اللذين يريان ضرورة ذوبانها الكامل في مؤسسات الدولة العراقية. ويحللُ لنا المشهد السياسي في العراق وأزمة الحكومة العراقية بين ضغوطات أمريكية قد تكون قادمة وعلاقتها مع الحشد، فيخرج لنا باستشرافٍ يقول إنّ لحظة نهاية هذه الفصائل قد تكون في المستقبل القريب.
في صنعاء اليمن كان المثقفون والكتّاب يلتقون في شارعٍ يُدعى شارع المطاعم، إلا أنّ الشارع تحوّلت معالمه بعد الحرب. يعيشُ الشارع اليوم حالة جديدةً مختلفةً بعد رحيلِ روّاده الأولين الذين إمّا أخذهم الموت أو الهجرة، أو صاروا معزولين عن الحياة العامة في العاصمةِ بسببِ سياسات قوّاتِ الحوثي التي تسيطر عليها. يستذكرُ الصحفي اليمني أصيل سارية في مقالتِه أيامَ شارع المطاعم والنقاشات السياسية والأدبية والاجتماعية التي كان يشهدها مقهى العم مدهش للشاي العدني، ويتحدثُ مع مثقفين وكتّاب يمنيين شكّل الشارع هُويتهم ومسيرتهم وأثّر حتى في كتاباتِهم. ثم يأخذنا إلى اللحظة الحالية، إذ تُمنعُ النساء من كاتبات ومثقفات من الجلوسِ في مقاهي الشارع منعاً للاختلاط، وكيف أثّر المناخ السياسي في تحوّلِ الشارع من شارعٍ لمطاعم المثقفين اليساريين ومقاهيهم إلى مجرّد مكانٍ آخرَ ، أي مجرّد شارعٍ للمطاعم.
أراك بخير في النشرة القادمة.