ليس بعيداً عن السياق الإقليميّ لسقوط أوراق “المحور” وانكفاء إيران إلى داخل الحدود استعداداً لمآلات التفاوض مع “الشيطان الأكبر” (سابقاً)، خطا العراق خطوة نحو حلّ واحد من أكثر الملفّات أهميّة في العلاقات مع الكويت، بتقديم طعن رئاسي – حكومي في قرار قضائي صدر في 2023 وأبطل اتّفاقاً لتنظيم الملاحة في خور عبدالله، الممرّ المائيّ الضيّق الذي يفصل بين البلدين، ويرتبط بشكل وثيق بملفّ الحدود البحريّة الشائك.
يوم الثلاثاء الماضي، تقدّم رئيسا الجمهورية والحكومة في العراق عبداللطيف رشيد ومحمد شيّاع السوداني بطعنَين منفصلين أمام المحكمة الاتّحادية العليا في العراق بقرارها الصادر في 4 أيلول 2023، الذي أبطل القانون رقم 42 لسنة 2013 في شأن تصديق الاتّفاق بين حكومتَي العراق والكويت في شأن تنظيم الملاحة في خور عبدالله، وطالباها بالعدول عن القرار وإعادة الاعتبار للاتّفاق الذي وقّعه البلدان في 2012، وصادق عليه مجلس النوّاب العراقي في 2013، ومجلس الوزراء العراقي 2014.
اللافت أنّ خبر الطعنين لم يُنشر في الوكالة الرسمية العراقية ولم يُوزَّع من مكتبَي رشيد والسوداني، وإنّما جاء على لسان “مصدر عراقي” لوكالة الأنباء الكويتية “كونا”، في دلالة واضحة توقيتاً ومضموناً.
مصدر دبلوماسي في الكويت لـ”أساس”: التغيير التدريجي في الموقف العراقي مردّه بشكل أساسي إلى تراجع النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين
حسن الجوار
وفق “المصدر”، استند الرجلان في الطعنين إلى المادّة 8 من الدستور العراقي التي تنصّ على أنّ العراق “يرعى مبدأ حُسن الجوار، ويلتزم عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ويسعى لحلّ النزاعات بالوسائل السلميّة، ويُقيم علاقاته على أساس المصالح المشتركة والتعامل بالمثل ويحترم التزاماته الدولية”.
في حين شرح رئيس الجمهوريّة في مطالعة الطعن جملة من الدفوعات القانونية المتعلّقة بسنّ المعاهدات الدولية، استند رئيس الحكومة إلى اتّفاق فيينا لقانون المعاهدات لعام 1966 الذي رسم إطاراً يضمن استقرار العلاقات بين الدول، ونصّ في مادّته الـ27 على أنّه “لا يجوز لطرف في معاهدة أن يحتجّ بنصوص قانونه الداخلي كمبرّر لإخفاقه في تنفيذ المعاهدة”. ولفت أيضاً إلى أنّ المادّة 8 من الدستور تُوجب مراعاة مبدأ حسن الجوار “بجميع تفاصيله”.
ردّاً على حجّة المحكمة بأنّ الدستور ينصّ على ضرورة “تنظيم عمليّة المصادقة على المعاهدات والاتّفاقات الدولية بقانون يُسنّ بأغلبيّة ثلثَي أعضاء مجلس النواب”، وهو ما لم يحصل في حالة الاتّفاق لأنّه أُقرّ بالغالبية المطلقة في 2013، ذكر محمد شيّاع السوداني في طعنه أنّ الاتّفاق لا يتعلّق أصلاً بموضوع ترسيم الحدود الذي تقرّر بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 833 لسنة 1993، وإنّما يتعلّق بتنظيم الملاحة في خور عبدالله، “وهو أمر مهمّ لا يمكن العدول عنه إلى أمر مجهول مع دولة جارة متشاطئة مع العراق”.
قال المصدر العراقي للوكالة الكويتية إنّ تقديم الطعنين “يعكس تمسّك العراق بالتزاماته الدولية، واحترامه للمواثيق والمعاهدات الموقّعة مع بقيّة الدول، إلى جانب التزامه الأكيد بالمادّة الثامنة من دستور البلاد التي ترسم طبيعة علاقاته بدول الجوار”.
ترسيم الحدود
قبل ذلك بيومين، أي الأحد 15 نيسان، عُقد في بغداد الاجتماع التاسع للّجنة الفنّية والقانونية العراقية – الكويتية لاستكمال ترسيم الحدود البحرية بين البلدين لما بعد العلامة 162، على اعتبار أنّ الترسيم السابق توقّف عند هذه النقطة.
وسجلت زيارة مفاجئة قبل شهرين (في 11 شباط الفائت)، للمستشار في الديوان الأميري الكويتي محمد أبو الحسن لبغداد، حيث اجتمع مع السوداني، وجرى الاتّفاق على “استمرار الحوار بين البلدين لتسوية الملفّات الباقية”.
قال المصدر العراقي للوكالة الكويتية إنّ تقديم الطعنين “يعكس تمسّك العراق بالتزاماته الدولية، واحترامه للمواثيق والمعاهدات الموقّعة مع بقيّة الدول
أبو الحسن عرّفته الوكالة العراقية الرسمية بـ”مبعوث أمير الكويت”، فيما اكتفت الوكالة الكويتية بالإشارة إلى صفته، وهي “مستشار في الديوان الأميري”، وهو ما يشير إلى الحذر الكويتي في التعامل مع الحوارات الجارية مع العراق، العلنية منها وغير العلنية.
مسار بطيء وحذر
قبل زيارة أبو الحسن إلى بغداد، التقى وليّ العهد الكويتي الشيخ صباح خالد الحمد الصباح مع رئيس الوزراء العراقي في نيويورك في أيلول 2024، على هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وكان الاجتماع الأعلى مستوى منذ فترة طويلة.
تشير الوقائع إلى أنّ لقاء نيويورك مهَّدَ لزيارة أبو الحسن، التي مهَّدَت بدورها لاستئناف عمل اللجنة المشتركة لترسيم الحدود، وجاء الطعن “المزدوج” تتويجاً لمسار التقارب، خاصة أنّ العراق تحت ضغط غير مُعلن، في ظلّ ربط كلّ دول الخليج بين تحسين العلاقات وبين حلّ الملفّات العالقة مع الكويت.
لكنّ هذا المسار الذي كان بطيئاً وحذراً في حلحلة الملفّات العالقة بين البلدين، يبدو أنّه انتقل إلى مستوى أكثر سرعة وفعّاليّة، خلال الأشهر القليلة الماضية، ليس بسبب تغيّر سياسات البلدين وإنّما نتيجة الانكفاء الإيراني في المنطقة، الذي يعتبره البعض “انكساراً جبريّاً” أكثر منه “انكفاءً طوعيّاً”.
إقرأ أيضاً: النّوويّ السّلميّ الإيرانيّ مقابل النّوويّ السّلميّ السّعوديّ
الحبر الإيرانيّ
يقول مصدر دبلوماسي في الكويت لـ”أساس” إنّ التغيير التدريجي في الموقف العراقي مردّه بشكل أساسي إلى تراجع النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين، إذ إنّ حكم المحكمة الاتّحادية أصلاً في اتّفاق خور عبدالله “كُتب بحِبر إيرانيّ”، وإنّ حلفاء طهران في العراق لم يسمحوا حينذاك للحكومة في المضيّ قدماً في تحسين العلاقات مع الكويت، على الرغم من الفوائد الهائلة للجانبين، خاصّة أنّ العلاقات الجيّدة مع الكويت تعني علاقات جيّدة بين العراق ودول مجلس التعاون الخليجي.
يضيف المصدر: “باعتقادي أنّ الكويت جاهزة لردّ التحيّة دائماً، لكنّها لن تُلدغ من الجحر مرّتين، وستطلب من الجانب العراقي ضمانات سياسية وقانونية لأيّ اتّفاقات يتمّ إبرامها، وترى في الخطوة العراقية الجديدة بادرة إيجابية يُبنى عليها بعدما تتحوّل واقعاً بقبول المحكمة الاتّحادية الطعن وإعادة الاعتبار لاتّفاق خور عبدالله”.