يطرح الباحث المغربي كمال القصير “قانون الفراغ” لتفسير وقائع التاريخ وللتنبّؤ بها أيضاً، على شكلٍ أفضل ممّا تفعله نظريّة العصبيّة لدى ابن خلدون، أو لاستكمال ما لم يُكمله المؤرّخ والقاضي في مقدّمة تاريخه.
لكن كما لا تنطبق نظريّة ابن خلدون تماماً على أحداث التاريخ، وظلّ يعدّل فيها بحذف وإضافة حتّى آخر أيّام حياته في القاهرة، فكذلك “قانون الفراغ” الذي اقترحه القصير في كتابه الجديد، لا ينطبق تماماً حتّى في الأمثلة التي أوردها في كتابه. وقراءته لوقائع التاريخ لا تخلو من بعض التحكّم كيما يتطابق الفكر مع الواقع. لا يفسّر قانون الفراغ كلّ تحوّلات التاريخ، وفيه إشارات المستقبل واحتمالاته للجماعات والدول التي تدخل مرحلة فراغ.
يقول الكاتب إنّه من الأقدار العجيبة بالنسبة للإسلام صعوده في منطقة بعيدة عن الاحتكاك المباشر مع حدود الإمبراطوريّتين الفارسية والبيزنطية، فكان اختيار الاتّجاه نحو المدينة أحد القرارات النبويّة الأكثر ذكاء في العالم في تلك اللحظة، بالنسبة إلى دين جديد يبحث عن جغرافيا فارغة وملائمة للصعود والتمدّد.
إنّ استثمار النبيّ لقانون الفراغ أمرٌ حقيقي، كما يقول القصير، فقد كان أحد المنجزات العبقريّة في عالم تلك المرحلة. وسواء في مكّة أو المدينة أو باقي أجزاء الجزيرة العربية، فإنّ المعتقدات الوثنية السائدة لم تتمكّن من تشكيل طبقة كهنوتيّة، تكون قلاعاً حصينة تقف عقبة في وجه تطوّر الأفكار الجديدة.
كانت يثرب منطقة فراغ بامتياز، سواء من حيث غياب العصبيّة القبلية الجامعة لمكوّناتها، أو من حيث غياب الأيديولوجية المكثّفة، وذلك مقارنة بمكّة التي عرفت كثافة دينية بوصفها منطقة مركزية للمعتقد الوثنيّ العربي. وكانت العصبيّة قائمة في مكّة وتجعل أمر صعود الإسلام فيها بالغ التعقيد. أمّا المكوّنات اليهودية في يثرب فلم تعمل كثيراً على إقامة دولة مكتملة الأركان لها، وكانت محلّ صراعات بين مكوّناتها، من الأوس والخزرج والمجموعات اليهودية، على خلاف مكّة التي كانت تشهد استقراراً وتوافقاً بين مكوّنات قريش.
دخل المسلمون الأوائل البلدان المجاورة من مناطق الفراغ الديمغرافي بعد هلاك عدد كبير من السكّان
العصبيّة متخلخلة
هذا الاستنتاج صحيح بإجماله، مع نقطة خلاف أساسية، وهي قوله إنّ اختيار المدينة قاعدةً للإسلام كان أحد القرارات النبوية الأكثر ذكاء في العالم، إذ يوحي بأنّ الخيارات كانت متاحة أمام النبيّ بين يثرب ومكّة، أو بينها وبين غيرها من المدن القليلة في الحجاز، مثل الطائف، لكنّ الرسول اختار يثرب لأنّ فيها عصبيّة متخلخلة، يمكن النفاذ من خلالها بدينٍ جديدٍ وأفكار جديدة تشكّل عصبيّة جديدة ودولة جديدة.
لا يساند الواقع الدكتور القصير في مسعاه التأويليّ هذا، حسبما يبدو واضحاً من وقائع السيرة النبويّة، التي لا أدنى خلاف على أحداثها. فالنبيّ سليل قريش وابن مكّة، وحاربه قومه واضطهدوا المسلمين الأوائل. وحاول نشر الدعوة في الطائف القريبة، فسلّط أهلُها عليه سفهاءهم. واستنصر القبائل لحماية الدعوة الناشئة، فلم يستجِب لدعوته إلّا الأوس والخزرج، عرب يثرب، الذين كانوا يبحثون عن قائد ينقذهم من حالة الاحتراب فيما بينهم.
في حقيقة الأمر أنّ الفراغ القيادي في يثرب هو الذي استدعى الإسلام إليها، أو لنقل إنّ ما جرى هو التقاء الحاجات المتبادلة، وهذا ما يفسّر الانتشار السريع للإسلام في يثرب التي ستصبح مدينة النبيّ، وسيُسمّى أهلها بالأنصار.
مع أنّ ابن خلدون استنكف عامداً عن تطبيق مفهوم العصبيّة على الحقبة النبوية في المدينة، لأنّها بنظره مرحلة استثنائية غلبت عليها الدعوة الدينية وهيمنت بحيث تراجعت كثيراً النزعة القبليّة، إلّا أنّ الدكتور القصير يحلّل تلك المرحلة بنظريّة العصبيّة والفراغ. يقول إنّ النبيّ أسّس عصبيّة جديدة إلى جانب الدعوة الدينية، بأن آخى بين المهاجرين من مكّة والأنصار من الأوس والخزرج، ثمّ دوّن الصحيفة، وهي الدستور الذي وضعه النبيّ لتنظيم الاجتماع في المدينة بين مكوّناتها من المهاجرين والأنصار واليهود، وظهر في الصحيفة مصطلح الأمّة الواحدة الذي هو عصبيّة العصبيّات.
لا تنطبق نظريّة ابن خلدون تماماً على أحداث التاريخ، وظلّ يعدّل فيها بحذف وإضافة حتّى آخر أيّام حياته في القاهرة، فكذلك “قانون الفراغ”
لكنّ القصير يُغفل تطوّراً مفصليّاً عندما نقض اليهود العهد بينهم وبين النبيّ، وآزروا مشركي مكّة عندما غزوا المدينة في معركة الخندق. فماذا كان مآل هذه العصبيّة، إن صحّت تسميتها كذلك؟ والعصبيّة المقصودة تاريخيّاً هي العصبيّة داخل القبيلة الواحدة، والصحيفة كانت تجمع بين قبائل شتّى ودينَين مختلفين؟ يبدو الباحث المغربي في هذه الجزئيّة كأنّه يضع النتيجة المطلوبة قبل السبب المفترض، لتصحيح نظريّته.
في مجال الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق ومصر، يبرّرها القصير بالقول إنّ العالم لم يكن ليقبل باستمرار الفراغ في الجغرافيا السياسية في سياق العلاقات الدولية آنذاك، فإمّا أن تغزو أو تتعرّض للغزو، فكان لا بدّ من استثمار المساحات الفارغة. ثمّ يفسّر النجاح الكبير في إلحاق الهزيمة بالإمبراطوريّتين الفارسية والبيزنطية في وقت واحد تقريباً، بالفراغ الذي كان تعاني منه تلك الإمبراطوريّتين، بسبب الحروب الطويلة بينهما، والطاعون الذي أصاب الشام والعراق، والانشقاقات الدينية داخل الكتلة المسيحية، وحملات القمع التي جرّدتها بيزنطة ضدّ المخالفين.
الدّخول من مناطق الفراغ الدّيمغرافيّ
دخل المسلمون الأوائل البلدان المجاورة من مناطق الفراغ الديمغرافي بعد هلاك عدد كبير من السكّان. وكانت مصر منطقة فراغ مستعدّة لقبول الوافد الجديد بسبب المظالم الثقيلة للبيزنطيين. لكن في الشام والعراق على وجه خاص، واجه المسلمون جيوشاً ضخمة، بجيوش قليلة العدد، ولم يكن الفاتحون يتمتّعون بخبرات عسكرية سابقة تسمح لهم بسوْق جيوش كبيرة نسبيّاً في مناطق جغرافيّة غير مألوفة لهم. فالعبقرية العسكرية لقادة الفتح، علاوة على الزخم القويّ للإسلام، كوّنا العامل الأساسي في الانتصار وليس الفراغ.
إقرأ أيضاً: “قانون الفراغ” يُكمل ابن خلدون أم يطيح به؟ (1-2)
ينسحب الأمر نفسه على تفسير سقوط الدولة الأمويّة وانتصار العبّاسيين، وسقوط دولة المماليك وانتصار العثمانيين. فالأمويّون كانوا يعانون اهتراء المضمون الأيديولوجي بإزاء الأيديولوجية العبّاسية الجذّابة (نصرة آل البيت)، إلّا أنّ العصبية القبلية التي جاءت بالأمويّين كانت قد تفكّكت. أمّا المماليك والعثمانيون فكانوا من مشارب متقاربة (الصوفية)، لكنّ العصبيّة العثمانية كانت أقوى من عصبيّة المماليك، وكان الجيش العثماني أقوى عسكريّاً.