ينعقد غداً في مدينة قامشلو (كونفراس وحدة الصف والموقف الكردي في روجافي كردستان ) بمشاركة واسعة من الأحزاب السياسية الكردية، والشخصيات الوطنية والقومية، ومنظمات المجتمع المدني، والحركات النسوية والشبابية. حيث يأتي هذا الكونفراس في لحظة سياسية مفصلية من تاريخ سوريا والمنطقة ، وتشهد البلاد تحولات عميقة بعد سقوط النظام الاسدي ، وتُكثّف الجهود المحلية والدولية لإنتاج نموذج جديد لسوريا ما بعد الحرب. لكن ما يميز هذا الكونفراس ليس فقط حجم الحضور أو تنوع المشاركين ، بل مضمونه السياسي الذي يسعى إلى إنتاج رؤية كردية موحدة لمستقبل سوريا وحل القضية الكردية، وهي خطوة طال انتظارها، وكانت دوماً مطلباً أساسياً لدى الشارع الكردي في سوريا، ومحل دعم من القوى القومية في الأجزاء الأخرى من كردستان.
يحظى هذا الكونفراس بدعم شعبي وقومي واسع، ويستند إلى مرجعيات سياسية وقومية وعلى رأسها الرئيس مسعود بارزاني، الذي لطالما تبنى خيار التوافق الكردي الداخلي كمدخل لحل القضية الكردية في كل جزء، وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، الذي أكدّ مراراً على أهمية وحدة الصف الكردي. كما يحظى برعاية غير مُعلنة لكنها واضحة من قبل قوى التحالف الدولي، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، اللتين أدركتا أن الاستقرار في سوريا يمر عبر حل حقيقي للقضية الكردية، وضمان مشاركة الكرد في مستقبل البلاد. ربما تُوجه بعض الانتقادات للكونفراس بسبب سرعة انعقاده أو آليات تمثيله – وقد تكون محقة – من قِبل أطراف لم تتم دعوتها أو حضرت بتمثيل رمزي أو من هم خارج الوطن ، وهذا مفهوم ومشروع في سياق السجالات السياسية. غير أن الأهم من كل ذلك هو مضمون الوثيقة التي سيتم التوافق عليها، وحجم الدعم الذي تتلقاه . فهي المرة الأولى التي يجتمع فيها الكرد في سوريا على رؤية واضحة، بعيدة عن الالتباس والمواقف الضبابية، وتستند إلى حق الشعب الكردي في الهوية، واللغة، والمشاركة السياسية المتساوية، في إطار دولة سورية ديمقراطية لامركزية تحفظ حقوق جميع مكوناتها.
أن أهمية هذه الرؤية تتجلّى في انها تدعو إلى إنهاء المظلومية التاريخية للكرد السوريين الذين عانوا لعقود من الإقصاء، والتجريد من الجنسية، والحرمان من الحقوق الثقافية والسياسية، وتُقدّم حلاً جذرياً لا ترقيعياً لهذه المظلومية. كما تُشرك الكرد كشُركاء حقيقيين في بناء سوريا الجديدة، من موقعهم كقومية أصيلة ومكون فاعل، وليس كطرف ملحق أو تابع، وهذا سيعيد التوازن الوطني، ويمنح النموذج السوري المستقبلي شرعية داخلية وخارجية أكبر، ويُعزّز فُرص الحل السياسي الشامل في سوريا، فالتوافق الكردي الداخلي هو ركن أساسي في أي تسوية مستدامة، ويمنع استغلال القضية الكردية من قبل أطراف خارجية تسعى لإدامة تعثّر الدولة السورية . كما تُحقّق الرؤية التكامل بين المشروع الوطني والمشروع القومي، من خلال دمج القضية الكردية ضمن أُطر الحل السوري الشامل، وعدم اختزالها في مطالب محلية أو إدارية، بل التعامل معها كقضية شعب له خصوصيته وهويته ، حيث يُثبت الكرد مرة أخرى أنهم دُعاة شراكة وسلام، لا انفصال أو خصام ، ويقدّمون للعالم نموذجاً سلمياً مختلفاً عن صراعات الإثنيات والطوائف المتفجرة في الإقليم والمنطقة ، وبالتالي فإن نجاح هذا الكونفراس ، وإن لم يأتي شاملاً من حيث التمثيل والمشاركة ، لكنه سيكون كاملاً من حيث الرسالة والنتائج، وإذا ما تمّ تثبيت الرؤية السياسية المشتركة، والبناء عليها في الخطاب السياسي والدبلوماسي الكردي، فإننا نكون أمام لحظة تاريخية قد تفتح أفقاً جديداً ليس فقط لكرد سوريا، بل لسوريا بأكملها، على طريق الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية .
إن الوحدة الكردية في الموقف والرؤية السياسية هي عامل أساسي لبناء سوريا جديدة، فالتوافق الكردي الداخلي يُعدّ ركيزة أساسية لضمان مشاركة حقيقية وفعّالة في العملية السياسية السورية وان مؤتمر قامشلو هو بداية الطريق نحو مصالحة كردية – كردية أولاً، وسورية – كردية ثانياً، وتلك هي الخطوة التي طالما انتظرها السوريون لبناء وطن حر وشعب كريم.