تتطوّر قواعد اللعبة والتوازنات في “الغابة” التي تحيط “بالفيلّا الإسرائيلية” بما يخيف بنيامين نتنياهو من أن تفقد إسرائيل هذا الوصف. فشل هذا الأخير في جرّ ما كان يطلق عليه “تحالف الراغبين” إلى إقامة ائتلاف إقليمي في مواجهة إيران. فشل أيضاً في اقتناص التطبيع مع المملكة العربية السعودية دون أيّ ثمن سياسي يؤدّي إلى حلّ الدولتين. ومحاولته توسيع “الفيلّا ” هذه من البوّابة السورية اصطدمت بالجدار التركي، والموقف السعودي الحاسم في مساندة الحكم الجديد في دمشق والحفاظ على وحدة سوريا. يتناول الحديث في إسرائيل هذه الأيّام تراجع المكانة الإسرائيلية لدى واشنطن، والقلق من الدور الكبير الذي تقوم به المملكة على الصعيدين الإقليمي والدولي. إلى ذلك يُكمل انطلاق المفاوضات الأميركية الإيرانية وسط خلافات كبيرة بين ترامب ونتنياهو رسم المشهد الذي يسيطر على النقاش بين النخب الإسرائيلية، التي تحذر من فقدان تل أبيب لموقعها المؤثّر في سياسات البيت الأبيض والمنطقة.
إنّ ما يعبّر عن حقيقة توجّس الإسرائيليين وخوفهم من فقدان مكانتهم لدى واشنطن وفي المنطقة، جاء في مقالة يهونتان أديري في صحيفة يديعوت أحرونوت بعنوان: “الطرق إلى واشنطن لم تعد تمرّ عبر القدس”، التي كتب فيها: “قبل عقد من الزمن، كانت الطرق إلى واشنطن تمرّ عبر القدس. لقد أدّت الجبهات السبع التي فُتحت منذ 7 أكتوبر إلى تغييرات تكوينية في المنطقة، ويتطلّب الواقع الجديد الناشىء أمامنا وسائل جديدة لمواجهته. السبب المركزي للتراجع إزاء الإدارة الأميركية ناجم عن رفض هذه الإدارة فكرة “الفيلّا في الغابة” التي صاغها إيهود باراك وتبنّيناها كلّنا بعده”.
يتناول الحديث في إسرائيل هذه الأيّام تراجع المكانة الإسرائيلية لدى واشنطن، والقلق من الدور الكبير الذي تقوم به المملكة على الصعيدين الإقليمي والدولي
وأضاف: “تنحصر رؤية زعماء إسرائيل للمنطقة في القضاء على التهديدات العسكرية ومنع المشروع النووي الإيراني وغير ذلك، بدلاً من التفكير الإيجابي بشأن المستقبل المنشود، والمواجهة الذكيّة مع خصوم وقوى مهيمِنة، مثل تركيا وإيران، والسعودية إلى حدّ ما. ما من بديل أمام إسرائيل سوى استبدال مفهوم “الفيلّا في الغابة”* بنظرة إقليمية من الهند إلى إثيوبيا، أساسها تحالُف يعيد تشكيل مكانتنا في الشرق الأوسط، ويضعنا في مكان حاسم على طاولة صُنع القرار الإقليمي والدولي”.
نجاح السّعوديّة
لم يخفِ الكاتب في مقالته التوجّس الإسرائيلي من مكانة المملكة والنجاح الذي حقّقته في إقناع ترامب بفصل التطبيع عن مسار الاتّفاقات الكبيرة المتوقّعة بين البلدين. ثمّ تطرق إلى المرحلة الحالية التي أصبحت فيها السعودية محوراً مهمّاً في الحوار بين روسيا وأوكرانيا، من خلال استضافة محادثات السلام في جدّة، والمسار الدبلوماسي الذي فتحته بشكل مستقلّ من “خلال زيارات رفيعة المستوى لطهران، وتحسين العلاقات معها”، وإلى موقف وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان، الذي يبدو للإسرائيليين “تراجعاً عن التطبيع مع إسرائيل، ويسعى إلى اتّفاق ثنائي مباشر مع الولايات المتّحدة يتضمّن تخصيب اليورانيوم لأغراض مدنية”. أصبحت المكانة التي حلّت فيها المملكة على الصعيدين الإقليمي والدولي موضع قلق لإسرائيل التي تترنّح سياستها الخارجية على وقع الفشل في الخروج من رؤية انتهت صلاحيّتها بفعل التطوّرات الجيوسياسية الكبيرة في المنطقة.
مكانة نتنياهو تهتزّ
كتب تسفي برئيل في صحيفة “هآرتس” مقالة بعنوان “ترامب يغيّر الشرق الأوسط ولم يبقَ لنتنياهو سوى انتظار اقتراحاته”، جاء فيها أنّ إيران تمثّل النموذج الأكثر أهمّية من التراجع الكبير في مكانة نتنياهو في شبكة القوى الدولية المؤثّرة في ترامب. وفي المقابل رسم الكاتب مشهد تراجع دور نتنياهو ونفوذه من باب العلاقات المتينة التي تربط ترامب بإردوغان، وقرار الإدارة الأميركية التي أعلنت نيّتها خفض حجم القوّة الأميركية العاملة في سوريا.
لم يخفِ الكاتب في مقالته التوجّس الإسرائيلي من مكانة المملكة والنجاح الذي حقّقته في إقناع ترامب بفصل التطبيع عن مسار الاتّفاقات الكبيرة
أشار الكاتب إلى فشل إسرائيل في إقناع الإدارة بعدم اتّخاذ مثل هذا القرار، وإلى أنّ الخوف الإسرائيلي يكمن في أن تصبح تركيا “الذراع العسكرية” للولايات المتّحدة في سوريا. وبرأيه أنّه إذا ما أضيف إلى هذا الأمر النفوذ التركي القائم حاليّاً لدى الحكم في دمشق، فستنشأ عن ذلك “تداعيات على حرّية عمل إسرائيل في المجال الجوّي السوري وسيكون ذلك مؤشراً أيضاً إلى تقاطُع المصالح الاستراتيجي الذي ينشأ الآن بين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وبين ترامب، وتبدو فيه إسرائيل عنصراً مزعجاً”.
السعودية
ختم الكاتب بالقول إنّ “المعركة الشاقّة التي تخوضها إسرائيل في سوريا لا تنتهي عند هذا الحدّ. فالشرع يرسّخ نفسه زعيماً شرعيّاً أكثر فأكثر، بمساعدة إردوغان وتأييد الدول العربية بقيادة السعودية وقطر والإمارات. ولا يزال ترامب يسمح لإسرائيل بالسيطرة على أراضٍ داخل سورية، وتوسيع سيطرتها هناك، ولا يعارض سيطرة إسرائيل على النقاط الخمس في لبنان. لكنّه في الوقت عينه يدفع إلى صوغ اتّفاقات مع تركيا على آليّة “تمنع المواجهات” وتخفّف الاحتكاكات في سورية. ويتطلّع إلى تطبيق اتّفاق وقف إطلاق النار بالكامل مع لبنان، ونزع سلاح “الحزب”، وترسيم الحدود البرّية بين لبنان وإسرائيل”.
إقرأ أيضاً: النّوويّ السّلميّ الإيرانيّ مقابل النّوويّ السّلميّ السّعوديّ
أمّا الكاتبة ليندشترواس فقد جادلت في مقالتها في معهد دراسات الأمن القومي بعنوان “بين الولايات المتّحدة وتركيا وإسرائيل: رؤى بشأن إعلان الولايات المتّحدة تقليص قوّاتها في سورية”، في أنّ “انسحاب القوّات الأميركية سيعزّز الهيمنة التركية على سوريا في مرحلة ما بعد الأسد وسيكون بمنزلة إنجاز تركي وفشل إسرائيلي”. يبدو أنّ “الفيلّا في الغابة” التي تشهد تفسّخاً في جدرانها الداخلية وفشلاً في التعامل مع التطوّرات في محيطها، تنتظرها تحوّلات جيوسياسية هائلة ستكون كلفة تداعياتها كبيرة.
*“الفيلا في الغابة”: تعبير يُقصد به أن الحضارة تحتكرها إسرائيل منفردة في المنطقة، كما لو أنها بيت عامر في قلب منطقة من الخراب.
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية.