قد لا تخلو وسيلة إعلامية عربية أو غربية من عنوان يتعلّق بالمفاوضات الإيرانية الأميركية، ووسائل الإعلام الإيرانية ليست مستثناة من هذا الاهتمام، إذ تحوّلت صفحات الصحف الأولى إلى عناوين مختلفة تتناول هذه المفاوضات بأبعادها وتداعياتها وشروطها ومتطلّباتها وآثارها. ولم تسلم منصّات “بودكاست” ومساحات النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي مثل “كلوب هاوس واكس” المتاحة أمام الإيرانيين من هذه العدوى، إذ باتت تخصّص غالبيّة نقاشاتها لهذه المفاوضات، ويشارك فيها الموالون للنظام والمعارضون في الداخل والخارج.
المحور الأساس الذي تدور حوله النقاشات الإيرانية على مختلف الوسائل الإعلامية التقليدية والحديثة، هي الآثار السلبية لسياسات إيران الإقليمية التي ظهرت في تخريب علاقاتها مع المجتمع الدولي، وتحديداً الولايات المتّحدة الأميركية.
المواقف الانتقادية أو الرافضة لهذه السياسات الإقليمية للنظام الإيراني، وإن كانت تدور خلف الكواليس بين القوى السياسية المعارضة في الداخل من دون أن تجرؤ على المجاهرة بذلك أو الحديث عنه بشكل مباشر، فإنّ رفض التورّط الذي مارسته السلطة ومنظومة القرار من خلال تحالفاتها واستثماراتها الإقليمية يبدو جليّاً من خلال تركيز هذه القوى ومواقفها على أولويّة إيران وضرورة إعادة النظر في جدوى السياسات الإقليمية وضرورة معالجة الآثار الاقتصادية والسياسية التي نتجت عن هذا التدخّل.
في حين أنّ الأصوات المعارضة في الخارج، سواء تلك التي تعمل من أجل الإطاحة بالنظام وإنهاء وجود الجمهورية الإسلامية من ملكيّين ومجاهدين وليبراليّين، أو تلك الحريصة على إعادة تعريف دور إيران وجمهوريّتها في سياق النظام الدولي، كانت أكثر وضوحاً ومباشرةً في انتقاداتها التي وصلت حدّ الهجوم والتصويب على هذا الدور الإقليمي، وما جرّه على إيران من خسائر اقتصادية وحصار وعزلة دولية وإقليمية حالت دون حصول تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية في إيران.
المحور الأساس الذي تدور حوله النقاشات الإيرانية على مختلف الوسائل الإعلامية التقليدية والحديثة، هي الآثار السلبية لسياسات إيران الإقليمية التي ظهرت في تخريب علاقاتها مع المجتمع الدولي
اصطناع العداء مع إسرائيل
كان لافتاً في هذا السياق أن تشارك مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون الرسمية، الخاضعة لإشراف مباشر من مكتب المرشد الأعلى للنظام، في هذه النقاشات، وفتح المجال بشكل مدروس ومقصود أمام بعض الأصوات المنتقدة للحديث عن الآثار السلبية لبعض سياسات إيران الإقليمية، خاصة تلك المتعلّقة بالساحتين اللبنانية والفلسطينية، التي عبّرت عنها شعارات “لا لبنان ولا غزّة، روحي فداء لإيران” التي رفعتها بعض الأطراف في الداخل.
سقف الخطاب الذي تقدِّمه هذه الجماعات، في شقّيها الداخلي والخارجي، أنّ على النظام إعادة النظر في دوره الإقليمي والتخلّي عن سياسة دعم الجماعات الموالية له في بلدان المنطقة، وهذا ما يسهم في إعادة تعريف علاقاته مع المجتمع الدولي والولايات المتّحدة، والخروج من العزلة السياسية والاقتصادية.
ترى هذه الجماعات أنّ ما قام به النظام من دعم الجماعات الموالية له قد أدّى إلى استنزاف الموارد الماليّة والتكنولوجية لإيران، وتوظيفها من أجل الحصول على مناطق نفوذ على حساب المصالح الوطنية والقومية للدولة والشعب الإيرانيَّين. وتذهب هذه الجماعات أبعد من ذلك بالقول إنّ القضيّة الفلسطينية لا تشكّل محلّ اهتمام للمصالح القومية الإيرانية باعتبارها قضيّة تخصّ الفلسطينيين بالدرجة الأولى والعالم العربي بالدرجة الثانية، وإنّ المطلوب من إيران اعتماد موقف مشابه للدول الإسلامية انطلاقاً من الاعتبارات الإنسانية، فاصطناع العداء مع إسرائيل قد ألحق الضرر بالمصالح الإيرانية، في حين أنّ إيران كانت قادرة على بناء علاقات متوازنة مع جميع القوى الدولية والإقليمية وعدم تبنّي مشاريع لا علاقة لإيران بها.
هذه النظرة الإيرانية لشبكة التحالفات التي نسجها النظام الإيراني على مدى عقود مع جماعات ودول في الإقليم، من المفترض أن تشكّل محطّة تتوقّف عندها هذه الجماعات باعتبار أنّها تمثّل رأياً وتوجّهاً عميقاً لدى الشعب الإيراني وحتى داخل منظومة القرار والسلطة، التي تعدّ هذه الجماعات أدواتٍ يمكن التخلّي عنها عندما تكون المصالح الإيرانية في دائرة الخطر.
ترى هذه الجماعات أنّ ما قام به النظام من دعم الجماعات الموالية له قد أدّى إلى استنزاف الموارد الماليّة والتكنولوجية لإيران
لقد ارتفعت وتيرة الانتقاد لموقف النظام الداعم لهذه الجماعات مع الانتكاسة التي لحقت بحلفاء وأدوات إيران في الإقليم نتيجة معركة طوفان الأقصى التي شنّتها حركة حماس ضدّ إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023، وما لحق بـ”الحزب” من ضربات جعلته يترنّح ويفقد الكثير من قدراته العسكرية والسياسية، بالإضافة إلى انهيار نظام بشّار الأسد وحجم الخسائر المادّية والاقتصادية والاستثمارات التي قدّمتها إيران نتيجة دعمها الكبير للأسد، وأدّت إلى وضع إيران في دائرة الاستهداف الأميركي والإسرائيلي.
نكران الفضل والجميل
قد يكون مفهوماً أن تتّخذ الدولة الإيرانية موقفاً من الأداء والسياسة التي اعتمدها النظام في التعامل مع الجماعات الموالية له في الإقليم ودعمها، والتي تصبّ في سياق استراتيجيّته لتكريس موقعه على خريطة تقاسم النفوذ في الإقليم مع الدول الإقليمية المنافسة، وتحديداً إسرائيل، وأن ترفض أن تتحمّل ميزانيّة الدولة عبء الدعم الماليّ لهذا النفوذ، كما حصل بين حسن روحاني عند تولّيه رئاسة الجمهورية وقيادة السلطة التنفيذية، عندما رفض تحمّل هذه الأعباء وقدّم المصالح الداخلية على أيّ اعتبارات إقليمية.
لكنّ من غير المفهوم أن تعمد النخب الإيرانية بكلّ تنوّعاتها وتوجّهاتها إلى اتّخاذ موقف العداء أو التنصّل من الجماعات الموالية للنظام الإيراني في الإقليم، وتراها سبباً في الأزمات التي يعانيها الاقتصاد الإيراني وفي العزلة الدولية، ومصدراً للتهديدات التي تتعرّض لها إيران.
تتناسى هذه النخب، أو لا تريد الاعتراف، بأنّ هذه الجماعات الإقليمية هي التي قدّمت لإيران تلك الورقة التي استخدمتها لتعزيز موقفها في التفاوض مع المجتمع الدولي، خاصة مع الأميركيين، وساعدتها بتلقّي الصدمات نيابة عنها، فكانت قادرة على المساومة على طاولة التفاوض من أجل تحسين شروطها النووية، في حين تحمّلت هذه الجماعات كلّ الآثار السلبية اقتصاديّاً وبشريّاً ومادّياً نتيجة الحروب والمواجهات التي خاضتها ضدّ إسرائيل والإدارة الأميركية لإبعاد شبح الحرب عن إيران.
إقرأ أيضاً: أورتاغوس التي يجب أن لا نصدّقها
قد تكون للمواجهة والصراع مع إسرائيل في الحالتين اللبنانية والفلسطينية مسوّغاتهما الذاتية نتيجة الأطماع والتهديدات الإسرائيلية المستمرّة والواضحة ضدّهما، إلّا أنّ ذلك لا يسقط أنّ أحد المحرّكات الأساسية لتصاعد هذا الصراع كان يحمل بصمة المشروع الإقليمي والاستراتيجي لإيران ونظامها، ولذا نكران الجميل والفضل الذي تمارسه هذه النخب في التنصّل أو العداء لحلفاء النظام الإقليميين يعني بوضوح أنّ هذه النخب باتت لا تتعامل مع هذه الجماعات على أساس مسألة أيديولوجية وعقائدية، بل حجم العبء الذي باتت تشكّله على المصالح الإيرانية، والآثار السلبية التي تعرقل أيّ تسوية قد تحاول إيران التوصّل إليها مع واشنطن.
قد تفرض هذه المواقف على هذه الجماعات ضرورة وضع مسافة موضوعية بين موقفها الأيديولوجي ومصالحها الاستراتيجية، وأن تعيد النظر في علاقتها مع إيران باتّجاه تعزيز اندماجها في السياقات الداخلية والسياسية لبلدانها، خاصة أنّ المرشد الأعلى للنظام الإيراني قد يكون الجهة الوحيدة مع بعض المواقع الأخرى الخاضعة لأوامره التي تعتقد بضرورة الاحتفاظ بالأوراق الإقليمية، والداعم الوحيد الذي تملكه هذه الجماعات داخل منظومة السلطة الإيرانية، وأنّ أيّ تغيير في رأس النظام قد يؤدّي إلى تغيير جذري في هذه العلاقة.