تفيد الحالة السورية شبه المستقرة حالياً، بعد تحريرها من النظام السابق، بإمكانية العودة لفتح كل القضايا المسكوت عنها، ومنها المسألة الكرديّة التي لها وجهان: الأول يتعلق بحقوق المواطنة ومكانتها في الدولة والمجتمع السوري، بحكم طبيعة السلطة السابقة التي كرست العداء بين المكونات السورية. والثاني، يتعلق بكونها قضية قومية، مما يستوجب مناقشتها الآن -من كل الأطراف المختلفة معها، والمتوافقة عليها- باحترافية سياسية، ومداخلة وطنية تؤكد وحدة الأراضي السورية، وقدرة شعبها على العيش السلمي المشترك، بحقوق مواطنة متساوية، وعابرة إلى الحقوق الجمعية، لتحقيق أكبر قدر من احترام الخصوصيات الثقافية لمختلف المكونات السورية، وتقاسم الواجبات تجاه عملية إعادة بناء الدولة السورية، وخلق إجماعات وطنية تؤسس للجمهورية السورية الجديدة.
ومن هنا، تكمن أهمية ما جرى في مؤتمر “وحدة الموقف والصف الكردي” في القامشلي، يوم السبت الماضي، من مناقشة الاختلافات التي تجمهرت الأحزاب الكردية خلفها، وتسببت في انشقاقاتها، وتفريق وحدة صفها، وصولاً لوثيقة مشتركة تثبت الخطوط العريضة لتفاهماتهم، وتنطلق منها أساسيات حواراتهم مع السلطات السورية، لحل القضية الكردية التي بقيت عالقة بين إرادة الانضواء تحت راية سوريا الواحدة، والمطالبات بحكم ذاتي، أو دولة كونفدرالية، ما كان من شأنه ان يثير الشكوك حول نية الانفصال مستقبلاً.
فبينما استبعدت بعض الاقتراحات المتعلقة بمطالب غير واقعية، وجدت الحلول الوسطية مكانها في الوثيقة، التي كانت حصيلة جمع الأحزاب تحت سقف واحد بجهود دولية متعددة، فالحديث عن سوريا اللامركزية (التي طالما أشرت إليها في مقالاتي كحل تنموي واقتصادي لكل المناطق السورية)، يعد مقاربة منطقية للحلول التي يمكن طرحها مع سلطة دمشق، والتي اعتمدت الواقعية خلال الاتفاق الأولي بين الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية (أحمد الشرع)، والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (مظلوم عبدي).
ويمكن القول: إن الاتفاق سرّع من عملية المصالحة الكردية- الكردية، نظراً لما تمتع به الطرفان الموقعان عليه، من برغماتية إيجابية تجاه مطالب مشروعة من كليهما، وهو الاتفاق الذي يمكن من خلاله استكشاف إرادة السلطة السورية الجديدة بالحفاظ على الحوار، كأداة لحل المسائل العالقة، والحفاظ على وحدة سوريا.
ولعلّ هذا الاتفاق بما يوحي من إمكانية إنهاء الصراع العربي- الكردي في سوريا والمنطقة عموماً، هو ما شجع أيضاً على تكثيف الوساطات الدولية لجمع الأحزاب والخروج بورقة عمل واحدة يمكن اعتبارها أساساً للمصالحة الداخلية، ووثيقة للإجابة عن أسئلة محورية على خلفية الطروحات الكردية غير المتناسقة، وبعضها كان قد جنح إلى ما هو غير ممكن التحقيق، على الأقل في المرحلة الحالية، ما كان يقودنا إلى استمرار حالة التشتت، واللا حل، التي تعطل مسيرة إعادة بناء مشروع الدولة السورية، ولعل شبه الاجماع الكردي الحاصل اليوم على سوريا لا مركزية، تضعهم في منتصف الطريق إلى دمشق، بديلا عن طروحات الاتحادية أو الكونفدرالية التي تتركهم بعيداً عنها، نتيجة ما اعتاد بعضهم على طرحه كنموذج للدولة السورية.
قدمت الوثيقة رؤيتهم الخاصة لشركائهم السوريين، وللمحيط الإقليمي والدولي، فأجابت عن أسئلة مهمة وأساسية كنت ذكرتها في مقالة في جريدة “العربي الجديد” في آذار من عام 2017، وهي “كيف ينظر السوريون الكرد إلى المشهد العام للحل في سوريا؟ وهل يعتبرون قضيتهم جزءاً من هذا المشهد؟ أم يرون أن لهم مشهداً مستقلاً تماماً؟ هل يرون أنفسهم كسوريين معنيين بالتغيير نحو المواطنة والديمقراطية في البلد؟ أم يرون أنفسهم ككرد فقط؟ أم يرون أنفسهم في تقاطع بين هاتين العمليتين، وَفْقَ صيغة دولة فدرالية أو لا مركزية؟
وعليه، فإن مجموع المطالبات التي أجمعت عليها الأحزاب الكردية، تؤكد انصهارهم بالقضية السورية ككل، رغم ميلها للتركيز على خصوصية مناطقها، إلا أنها في الوقت نفسه، يؤخذ عليها أنها تحمل السلطة الحالية تبعات أخطاء نظام الحكم السابق، والوحدة السورية- المصرية، وحالة الفساد والفوضى التي عمت البلاد خلال الحكم الفاسد في عهدي الأسد الأب والابن، وفي ظل الحرب الهمجية التي شنها نظام بشار الأسد على الشعب السوري، منذ عام 2011 وحتى فراره من سوريا في 8 كانون اول/ديسمبر 2024.
ما يعني أن المطالب قد تحتاج إلى تقنين من جهة، وإلى امتلاك المرونة الكافية لمن يفاوض بشأنها من جهة مقابلة، لتكون حكومة الرئيس الشرع قادرة على التعامل معها، وفق منطق الممكن والمتاح والقابل للتطبيق، سواء لأنه يستدعي بنية تحتية مؤسساتية تحمله، أو بنية تشريعية تتعامل مع التغيير وفق إرادة الشعب السوري بكامل أطيافه، بكل الأحوال فإن التقاط الإشارات الإيجابية من الطرفين الحكومي والكردي، وتوظيفها في مشروع وطني جامع، يضع سوريا على سكة الطريق الصحيحة، نحو المستقبل الذي يستحقه كل السوريين على اختلاف قومياتهم وطوائفهم.