ملخص
ربما تتساوى حظوظ النجاح والفشل خلال عملية التفاوض بين أميركا وإيران، ونهج ترمب في الربط بين الفوائد الاقتصادية والتسويات السياسية واضح في كل المبادرات التي يتخذها، ففي غزة ربط التسوية بتملك القطاع وتحويله إلى “ريفييرا” سياحية، وفي أوكرانيا جعل من اتفاق المعادن مدخلاً لإنجاز مبادرته، وهو في مفاوضاته الإيرانية يطمح إلى كسب سوق إيرانية كبيرة، وطهران ترى ذلك جيداً والكرة الآن في ملعبها الخاص وملاعبها الرديفة، والأجوبة التي ستقدمها ستترك أثرها في الداخل وفي كل أنصارها ضمن المحيط المباشر.
تتمسك إيران بالقول إن مفاوضاتها مع الولايات المتحدة الأميركية تقتصر على بندين، الطبيعة السلمية لبرنامجها النووي ورفع العقوبات المفروضة عليها، ولا تقول الولايات المتحدة علناً إن المحادثات تتضمن بنوداً أخرى، لكن مسؤولين من الجانبين يتحدثون عن مسائل أخرى ينبغي التوصل إلى اتفاق في شأنها، وأبرزها ضبط صناعة الصواريخ الإيرانية البعيدة المدى وإنهاء التدخلات الإيرانية في الإقليم عبر التوقف عن دعم الوكلاء والأذرع المنتشرة في عدد من الدول العربية.
غموض جدول الأعمال الذي يزيده الصمت الأميركي والتصريحات الإيرانية الرسمية التباساً لم يمنع الجانبين من اللجوء إلى تعزيز موقفهما التفاوضي خلال العملية الجارية، ابتداء من “جولة مسقط” الأولى مع فارق كبير في القدرات، فقبل تلك الجولة الأولى نشرت الولايات المتحدة قوات عسكرية ضخمة حول إيران وأطلقت عشيتها حزمة من العقوبات الجديدة ضدها، وقبيل “جولة روما” فرضت أميركا عقوبات مماثلة، وقبل الجولة الثالثة الأخيرة أضافت الثلاثاء الماضي حزمة جديدة من التدابير العقابية، في ما اعتبرته صحيفة المرشد الإيراني “كيهان” رسائل متعاقبة في “توقيت غير بريء”، وهو ما يستدعي برأيها رداً مناسباً من خطوتين، الأولى الانسحاب من “معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية”، والثانية “إغلاق مضيق هرمز أمام السفن العسكرية والتجارية للأعداء”.
لم تصل إيران، ولن تصل على الأرجح، في ردودها على التدابير الأميركية التفاوضية إلى حدود إغلاق مضيق هرمز الذي تعرضت عاصمته بندر عباس لانفجار ضخم بعد ثلاثة أيام من تهديد “كيهان” بإغلاقه، ولن تنسحب في الظروف الراهنة من “المعاهدة الدولية للحد من الأسلحة النووية”، لكنها لجأت إلى أسلوبها المعهود في تحريك ما بقي من أذرع للضغط على ما تعتبره مصالح ومشاريع أميركية في المنطقة، وفي هذا السياق يمكن إدراج المواقف التصعيدية لـ “حزب الله” في لبنان ضد رئيس الجمهورية والحكومة التي تؤكد حصر السلاح بيد الدولة، ثم هجوم قادة في الميليشيات العراقية على الرئيس اللبناني جوزاف عون لمجرد أنه رفض تكرار تجربة “الحشد الشعبي” العراقي في لبنان، وأخيراً تمسك عبدالملك الحوثي بسلاح الحزب اللبناني، في معرض الدفاع عن إيران وخوض المعركة الشاملة ضد أميركا.
شن “حزب الله” منذ بداية عملية التفاوض الأميركية – الإيرانية حملة لا تبرير لها ضد السلطات اللبنانية تحت عنوان رفض تسليمها سلاحه بحجة مقاومة إسرائيل، والحزب الذي وقّع وثيقة استسلام للعدو الذي دمره وقضى على قادته ومئات من عناصره، لم يخجل من عدم إعلان فشل مغامرته في شن الحرب على إسرائيل، فخلال أسابيع قليلة سقطت مقولتاه “الدفاع عن لبنان عبر توازن رعب زعم أنه أقامه مع إسرائيل”، و”الدفاع عن طائفته التي أنهكتها ودمرتها وشردتها آلة الحرب الإسرائيلية”.
جولة مفاوضات ثالثة بين أميركا وإيران حول الملف النووي
لقد سقط الحزب في امتحانيّ ما يدعيه الدفاع عن حدود الوطن وحدود الطائفة، وثبت للبنانيين والعرب والعالم أنه لا بديل من الدولة لحفظ البلاد والمواطنين من الأخطار، ومع ذلك عاد الحزب الذي تموله وتسلحه إيران لخطاب بتر الأيادي التي “ستمتد إلى سلاح المقاومة” المختفي منذ اتفاق الـ 27 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على رغم استمرار الهجمات الإسرائيلية التي قضت على أكثر من 140 من عناصره، وعلى رغم استمرار الاحتلال الإسرائيلي لعدد من المواقع في الجنوب اللبناني.
وليس الحزب وحده، من بين أطراف الشبكة الإيرانية، من يرفض الامتثال لمؤسسات الدولة الدستورية، فقد انضم إليه الانقلابي الآخر في صنعاء عبدالملك الحوثي الذي استفاض خلال آخر خطاباته في شرح الأوضاع في غزة ولبنان وسوريا ليحذر من “الذهاب نحو تبني أولويات العدو الإسرائيلي بالمطالبة بتسليم سلاح المقاومة”، في اتهام يتسم بالوقاحة للسلطات اللبنانية، ثم جاء بيان السفير الإيراني في لبنان ليتوج تلك التصريحات بإعلان رفض حكومته حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية وضرورة بقاء سلاح الميليشيات، مما استدعى تنبيهاً للسفير من وزارة الخارجية اللبنانية.
لا يمكن تفسير مواقف الوكلاء المستجدة خارج سياق الحاجات الإيرانية في مرحلة المفاوضات، فلقد تحول هؤلاء في الواقع من مساندين لغزة بحسب تكليفاتهم السابقة إلى مساندين لطهران في معركتها الدبلوماسية، وهذه كانت ولا تزال المهمة التي أنشئوا من أجلها، وقد تطورت تلك المهمة خلال الأعوام الأخيرة من إسناد لنظام بشار الأسد إلى مساندة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وصولاً إلى إسناد طهران.
لكن ليست تلك الصورة الكاملة، فهذه التنظيمات التابعة لولي الفقيه الإيراني تخوض معركتها الخاصة أيضاً، فهي في حالتي نجاح الاتصالات الأميركية الإيرانية أو فشلها ستبحث عن ضمانات لاستمرارها، وهذه المرة قد يكون هذا الاستمرار فاقداً الرعاية الإيرانية في حال نجاح تلك الاتصالات، وقاتلاً في حال الفشل وذهاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى تنفيذ تهديداته العسكرية لإيران بمساعدة إسرائيل، وفي الحالين لا مفر أمام تنظيمات “الإسناد” الإيرانية من القبول بانتهاء صلاحيتها والاندماج الفعلي في حياة بلدانها تحت سقف الدستور والمؤسسات الشرعية، ويصح ذلك في العراق كما يصح في لبنان واليمن، أما في حال غزة فاليوم التالي مرتبط بهذه الحقيقة بالذات، إذ لا مخرج سوى إعادة توحيد السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير لتتوليا إخراج الشعب الفلسطيني من المجزرة المستمرة بدعم ورعاية عربيتين، وربما تتساوى حظوظ النجاح والفشل في عملية التفاوض بين أميركا وإيران، ونهج ترمب في الربط بين الفوائد الاقتصادية والتسويات السياسية واضح في كل المبادرات التي يتخذها، ففي غزة ربط التسوية بتملك القطاع وتحويله إلى “ريفييرا” سياحية، وفي أوكرانيا جعل من اتفاق المعادن مدخلاً لإنجاز مبادرته، وهو في مفاوضاته الإيرانية يطمح إلى كسب سوقة إيرانية كبيرة، وطهران ترى ذلك جيداً والكرة الآن في ملعبها الخاص وملاعبها الرديفة، والأجوبة التي ستقدمها ستترك أثرها في الداخل وفي كل أنصارها ضمن المحيط المباشر.