لطالما كان الكرد في قلب الجغرافيا الشرق أوسطية أحد أكثر الشعوب تعرضاً للتهميش والاضطهاد القومي، بالرغم من كونهم يشكلون ثاني أكبر قومية في المنطقة بعد العرب، ويملكون تاريخاً عريقاً وثقافة غنية ومطالب سياسية مشروعة في الاعتراف بهويتهم القومية وحقوقهم في الحكم الذاتي أو المشاركة العادلة في السلطة.
في تركيا وإيران وسوريا والعراق، تكررت السياسات ذاتها: إنكار الهوية، تجريد اللغة، قمع التنظيم السياسي، ونفي أي وجود قومي مستقل للكرد ، وتحت ذرائع الأمن القومي أو وحدة الدولة، تم تحويل الكرد إلى مواطنين من الدرجة الثانية كما حصل في سوريا ، الى “أجانب” في وطنهم ، بسبب الاحصاء الاستثنائي لعام ١٩٦٢.
أمام هذا الواقع الطويل من الاضطهاد، تُصبح الأسئلة التي تُثار عند أي علاقة محتملة بين الكُرد وإسرائيل، أو أي قوة خارجية أخرى، نوعاً من التهرب من السبب الحقيقي للمشكلة: لماذا يُضّطر الكرد للبحث عن دعم خارجي أصلاً؟ ومن المسؤول عن عزلهم داخلياً وشيطنة نضالهم القومي المشروع؟
فالشعوب لا تختار حلفاءها من موقع الرفاهية، بل من موقع الحاجة والخذلان ، وعندما يغلق الداخل أبوابه، يفتح الخارج تلقائياً، ولا عجب أن تبحث قوى كردية عن منابر سياسية أو دعم معنوي من أي طرف دولي مستعد للاستماع لقضيتهم. إسرائيل، كقوة إقليمية معقدة الدور، لم تكن استثناءً، بل إحدى الجهات التي قرأها بعض الكُرد على أنها نافذة محتملة للاعتراف أو الحماية، في وجه أنظمة تسعى إلى سحقهم لا احتوائهم.
في العراق، عانى الكرد من حملات إبادة منظمة على يد نظام صدام حسين، أبرزها حملة الانفال عام 1988 التي راح ضحيتها ما يزيد عن 180 ألف مدني، إضافة إلى قصف مدينة حلبجة بالسلاح الكيماوي، في جريمة هزّت ضمير العالم. لم يكن للكرد حينها خيارات كثيرة، وكان التحالف مع الولايات المتحدة، بل وحتى نسج خطوط غير رسمية مع إسرائيل، نابعاً من غياب أي دعم عربي أو إسلامي حقيقي لقضيتهم ، ولم يكن ممكناً بناء كيان إقليمي في إقليم كردستان العراق عام 1991 لولا منطقة الحظر الجوي والدعم الغربي ( القرار ٦٨٨).
أما في سوريا، فلم يكن النظام يوماً صديقاً للكرد، حتى عندما كانت الأحزاب الكردية تُهادن أو تتجنب المواجهة. لم يحصل الكرد حتى على الاعتراف بوجودهم، بل تم تجريد عشرات الآلاف منهم من الجنسية، ومُنعت اللغة الكردية من التداول العلني، وجُرّمت أي مطالب ثقافية أو سياسية. حتى بعد انخراط الكرد في الحراك السلمي عام 2011، لم تُبدِ المعارضة السورية استعداداً جاداً للاعتراف بحقوقهم، مما عزّز شعورهم بأنهم مُهدّدون من طرفي المعادلة: النظام والمعارضة.
وفي تركيا، لم تتوقف محاولات صهر الكرد منذ قيام الجمهورية الحديثة. لم يُعترف بالكرد حتى كقومية مستقلة لعقود، وسُميت مناطقهم بـ”شرق الأناضول”. رغم انفتاح محدود في عهد حكومة العدالة والتنمية بين 2009 و2013، ثم انهارت عملية السلام2015 وعادت الدولة إلى حملة قمع واسعة، شملت عزل رؤساء بلديات منتخبين، واعتقال سياسيين وصحفيين، وملاحقة كل من يرفع الصوت الكردي.
في ظل هذه الخلفية، فإن أي “تقارب” كردي مع قوة إقليمية أو دولية، حتى وإن كانت مثيرة للجدل كإسرائيل، لا يجب أن يُنظر إليه بمنظار الخيانة، بل كعرض من أعراض أزمة مستدامة تتمثل في غياب الاعتراف الداخلي وحرمان شعب من التعبير عن نفسه…؟
المفارقة المؤلمة أن من يرفض منح الكرد حقوقهم، هو ذاته من يتهمهم بالخيانة عندما يبحثون عن بدائل. فهل يرضى هؤلاء للكرد أن يعيشوا تحت القصف والحرمان والإقصاء دون أن يصرخوا؟ دون أن يستغيثوا؟ دون أن يسعوا لأي منقذ؟ إنها معادلة ظالمة وغير منطقية….!
الشعوب المظلومة، وعلى رأسها الكرد، لا تطلب المعجزات، بل العدالة ، ولا تسعى إلى الهيمنة، بل إلى الشراكة ، ومن أراد أن يُغلق الأبواب أمام التدخلات الخارجية، فليفتح أبواب الاعتراف الداخلي ، ومن يخشى على وحدة الدولة، فليوحدها على أسس المساواة والشراكة لا الإنكار والقمع.
الكرد ليسوا عدو أحد. هم ضحية لأنظمة لم تفهم بعد أن الاستقرار لا يُبنى على الإنكار، وأن الهوية لا تُطمس بالحديد والنار ، والكرة اليوم، كما كانت دائماً، في ملعب تلك الأنظمة. إما أن تختار طريق الحوار والشراكة، أو تتحمل مسؤولية كل خيار يضطر إليه الكُرد في طريقهم نحو الوجود والكرامة.