عندما يتعلق الامر باعتداء إسرائيلي كالذي تعرضت له الضاحية الجنوبية بالامس، لا يبقى في قاموس التحليل السياسي اللبناني، مكان لما يمكن أن يثير الغموض والحيرة. وعلى هذا المنوال، تتعدد الرسائل التي يريد العدو توجيهها لأكثر من جهة، في الداخل اللبناني والخارج، وتتنوع الأهداف بحيث يصبح السرب الإسرائيلي الذي وجه الصواريخ الثلاثة الى ذلك البناء البائس في حي الجاموس، مكلفاً بمهمة عسكرية استراتيجية إقليمية، تفوق بأهميتها الاستراتيجية مسألة نزع سلاح “حزب الله” نفسه.
لم يعترف أحد حتى الآن سوى بأن الغارة كانت مفاجئة، لأنه لم تسبقها ذريعة ما على الحدود الجنوبية. وما عدا ذلك، راحت التحليلات، المبنية على تلك المفاجأة، في رحلة مثيرة، تتسقط رسالة بعد أخرى، وتكتشف هدفاً تلو الاخر.. فقط لتتجنب القول ببساطة ان الغارة غامضة، محيرة، ومثيرة للارباك، وربما كان هذا غرض الإسرائيليين الوحيد، في هذه المرحلة بالذات، استنادا الى كل ما عُلم عن المبنى المستهدف، الفارغ، الذي لم يكن مخزنا للصواريخ ولا المسيرات، ولا حتى الذخائر، بل كان مركزاً لتوزيع المساعدات وتنظيم مجالس العزاء.. واستناداً الى كل ما صدر من تل ابيب ومؤداه منع الحزب من تحويل الضاحية الجنوبية الى ملاذ لأسلحته.
الارجح أن الغارة نفذت على عجل، ومن دون معلومات دقيقة عن المبنى المضروب، بل بناء على معطيات وخرائط واستخبارات سابقة. القول أنها كانت غارة إستباقية تمنع تحويل الضاحية الى ملاذ مسلح للحزب، ليس له منطق، حتى في سلوك الحزب اليائس، المذعن، الذي لا يمكن ان ينسى دروس الأشهر الماضية من الحرب الحالية، وان يكرر خطأه الفادح في تحويل الضاحية بالذات، وهي آخر”عواصم” الشيعة في لبنان، الى قلعة عسكرية لم تحصنها الانفاق ولم تحمها من الدمار. وهو ما يمكن ان ينسحب على فكرة التسلح بمجملها، والتي بلغت نهاياتها التعيسة، الناجمة ليس فقط عن التفوق العسكري الإسرائيلي، بل أيضاً الانهيار العسكري لحزب الله الذي يبدو اليوم وكأنه يلفظ أنفاسه العسكرية الأخيرة، ولم يعد هدفاً ذا قيمة لا في طهران ولا في صنعاء ولا في دمشق طبعا..
في تتبع الرسائل والاهداف المقصودة من الغارة فيض من المبالغات: تحويل الضاحية الى هدف عسكري متجدد يضاف الى الأهداف المحددة في شمال الليطاني، مع أن الضاحية لم تخرج يوماً من تلك الدائرة، وبات شمال الليطاني يشمل مساحة الجمهورية كلها. أما في السياسة ، فإن القول باستهداف الرئيس جوزف عون بالتحديد، باعتباره المسؤول الأول والاوحد عن تنفيذ القرار 1701 وملحقاته، يقع خارج أي سياق عقلاني، لأنه ليس للرئيس بديل أو رديف في هذه المهمة المحددة باجماع عربي ودولي لا مثيل له. والغارة لن تعرقل هذا الدور، ولن تسرّعه، حسب مشيئة بعض القوى السياسية اللبنانية، لان سرعتها محددة ومنظمة ومقبولة من جانب اللجنة الخماسية الدولية، التي يستبعد ان تفكر إسرائيل بالاغارة عليها من الجو، من أجل تعطيل مهمتها، كما شاع بالأمس في بعض التحليل السياسي اللبناني.
أما إيران التي كانت كالعادة الأكثر شيوعاً في كشف خلفيات الغارة، فإن إسرائيل لم ولن تشاغب على قرار أميركي حاسم، إلا بقرار أميركي مشابه، ليس هناك دليل حتى الان على صدوره من واشنطن، في ظل تواصل جلسات التفاوض النووي الإيجابي بين الاميركيين والإيرانيين، الذين توسلوا المفاوضات لغايات تتجاوز حزب الله ودوره وسلاحه ومستقبله، وهو ما يمكن التثبت منه بسهولة، وما يعرفه الإسرائيليون جيداً، بما يتيح الجزم في أن أحداً في واشنطن وطهران لن يصاب بالأرق، إذا دُمّرت الضاحية، وزال وجود الحزب فيها.
وعليه، يمكن إحالة الغارة المحيرة على الضاحية، الى ما كان يتردد في الماضي، ولو من باب السخرية، عندما كان التحليل السياسي يعجز عن تفسير الكثير من الاعتداءات الإسرائيلية، والقول مثلا أن إسرائيل تقوم بتخريج دفعة جديدة من طياريها، أو هي تختبر الطائرات الثلاث (من طراز أف 35) التي تسلمتها الخميس الماضي من أميركا، وأصبح لديها 45 طائرة من ذلك الطراز الاحدث، بمهمة عسكرية سهلة..ومهمة سياسية معقدة، تغطي على ضرب ميناء بندر عباس الإيراني، ولا تستبعد التدخل في الانتخابات البلدية التي ستنطلق في لبنان إعتباراً من الاحد المقبل!!
بيروت في 28 / 4 /2025