لم تتوقف الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان منذ انتهاء حرب 2024، التي وضعت أوزارها في تشرين الثاني الماضي عقب اتفاق هش لوقف إطلاق النار برعاية دولية. فبعد نحو خمسة أشهر على هذا الاتفاق، لا تزال الطائرات الاسرائيلية تجتاح الأجواء اللبنانية بلا حسيب أو رقيب، ولا تقف استهدافاتها عند الجنوب وحسب، بل تتعداها الى عمق الضاحية الجنوبية لبيروت. وأحدث الغارات، التي وقعت الأحد الفائت، هي الثالثة خلال أسابيع قليلة، وجاءت بعد تحذيرات إسرائيلية علنية نقلتها وسائل إعلام عبرية، مهددة بتوسيع دائرة الاستهداف داخل لبنان.
في الداخل اللبناني، تبدو الصورة أكثر احتقاناً. أنصار “حزب الله” يشنّون حملة سياسية وإعلامية عنيفة على الدولة اللبنانية، متهمين السلطة الحالية بالعجز عن حماية السيادة الوطنية، وقد أطلقوا وسم “الديبلوماسية العاجزة” ليصفو السلطة اللبنانية.
مسؤولو “حزب الله” ليسوا بعيدين عن رأي جمهورهم، وقال نائب سابق لموقع “لبنان الكبير”: “السلطة الحالية قررت أن تدفن رأسها في الرمال، بينما تُنتهك أرضنا وسماؤنا كل يوم. الرهان على الخارج مضيعة للوقت، ولا يحمي لبنان إلا معادلة الردع التي أثبتت فعاليتها لعشرين عاماً”.
في المقابل، يصر الفريق السيادي على تحميل “حزب الله” مسؤولية استدراج هذه الضربات. واعتبر مسؤول حزبي أن “من يحتكر قرار الحرب والسلم ويورّط لبنان في صراعات لا يريدها الشعب اللبناني، يتحمل نتائج الخراب. لا السلاح حمى لبنان، ولا أدبيات الممانعة حمته. وحدها دولة المؤسسات يمكن أن تصنع السلام الحقيقي”.
هذا الانقسام الحاد بين من يعتبر أن “المقاومة المسلحة” لا تزال الضمانة الوحيدة للبنان، وبين من يرى أن حصرية السلاح بيد الدولة شرط أساسي للسيادة، يشل قدرة البلاد على صوغ رؤية استراتيجية موحدة.
واعتبر وزير سابق أن “لبنان لا يمكنه أن يعيش في ظل ازدواجية السلاح والقرار. هذه المعادلة استُنزفت حتى النهاية، ويجب أن نذهب إلى مشروع وطني واحد، قاعدته الدستور والشرعية الدولية”.
أوساط حكومية أكدت أن رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام يتمسكان بالخيار الديبلوماسي كمسار وحيد لحماية لبنان في هذه المرحلة الدقيقة.
وأشار مصدر حكومي إلى “أننا لسنا في وارد المغامرة بجر البلاد إلى مواجهة مدمرة جديدة. نحن نتحرك سياسياً عبر القنوات الدولية، ونمارس الضغط القانوني في مجلس الأمن لوقف الاعتداءات، وحزب الله بنفسه اعترف بأن أي رد فعل غير محسوب منه يستجلب حرباً مدمرة على لبنان”.
مصدر فرنسي من أصدقاء لبنان رأى أن “لبنان يقف على فوهة بركان. إذا لم تُضبط الأمور سياسياً وأمنياً، فإن المنطقة بأسرها قد تدخل نفقاً مظلماً جديداً”.
وصلت الحصيلة الرسمية للخروق الاسرائيلية على لبنان منذ وقف إطلاق النار إلى 3028 خرقاً وعدواناً وأدت الى مقتل 150 شخصاً.
ويبدو لبنان عالقاً بين فكي كماشة: فبين التصعيد الاسرائيلي الذي لا يلقى ردعاً حاسماً، والانقسام الداخلي الذي يتسع كل يوم، تصبح سيادة البلد أكثر هشاشة، وموقعه أكثر ضعفاً.
السلاح تمكن في حقبة معينة من تحقيق ردع مع العدو الاسرائيلي، فعلى الرغم من التفوق العسكري كان سلاح الحزب يستطيع أن يشكل ضرراً ورعباً لتل أبيب، ولكن بعد “طوفان الاقصى” تمكن بنيامين نتيناهو من استغلال الدم والخوف لخوض حرب شعواء غير آبه بالخسائر ومعتمداً على دعم أميركي غير محدود بعنوان انهاء كل التهديدات المستقبلية لـ”دولة اسرائيل”، وهذا ما لم يكن يتوقعه “حزب الله” بل لم يتوقعه أحد، ما جعل السلاح في وجه التفوق العسكري والتكنولوجي يفقد الكثير من فعاليته.
كما أن اسرائيل لا تعير اهتماماً لا للأمم المتحدة ولا للمجتمع الدولي وبالتالي الحلول الديبلوماسية معها ستكون شبه مستحيلة.
وبالنسبة الى سؤال: هل تكفي الديبلوماسية وحدها لردع العدو الاسرائيلي أم أن السلاح لا يزال ضرورة على الرغم من أثمانه الباهظة؟ الجواب معلق على تطور موازين القوى، داخلياً وإقليمياً، وعلى قدرة لبنان على بناء وحدة وطنية حقيقية تتجاوز الاصطفافات والرهانات الخارجية.
ولكن المؤكد بعد كل ما تعرض له البلد أن قرار الحرب والسلم لم يعد متفلتاً، وما الدليل على ذلك إلا ضبط النفس الذي يلتزم به “حزب الله” منذ وقف إطلاق النار. أما الحملات على الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي فلا تعدو كونها “الجمهور عايز كده”.