يكاد لا يخلو لسان إنسان على هذه الأرض من التلفّظ بمعنى صدر البيت الشعري للمتنبي: “على قَلَق كأنّ الريح تحتي”، ومع ذلك لا يتمّم هذا الصدر بالعجز: “أوجهها جنوبًا أو شمالا”. لقد كان المتنبي سيد قلَقه، أمّا إنساننا في هذا الزمن، فهو في قلق دائم، كأنّه البحر المضطرب، لا مرساة تنجيه، ولا مرفأ يؤويه، ولا شراع يشدّ من أزره، حتى أصبح القلق مرض العصر، كأنّه مارد ما إن تحفّ فانوسه حتى يخرج لك ضباب لا يستبين منه شيئًا، فتلقي عليه الأماني لدحض المخاوف، فلا تجد منه إلّا العجز المدوي. إنّ الإنسان كائن القلق، لأنّه كائن الحرية وكائن الإرادة؛ والحرية والإرادة هما من يسبّبان القلق، لأنّهما يدعوانه لاكتشاف ذاته.
في “أوديسة” هوميروس احتجزت الجنية كاليبسو أوديسيوس وبحارته، حيث حوّلت بحارته إلى حيوانات وأبقت عليه عشيقًا. أراد أوديسيوس استكمال رحلته إلى وطنه، وعندما حاول إقناع بحارته الذين تحوّلوا إلى حيوانات بالعودة إلى حالتهم الإنسانية، أجابه أحد البحارة الذي أصبح خنزيرًا، بأنّ هذه الحياة الحيوانية أفضل من حياة الإنسان، فلا قلق، ولا مخاوف، ولا هلع من المستقبل، فلماذا نستبدلها؟
لقد كان القلق العقدة الكأداء في حياة الإنسان التي حاول تذليلها بالأقدار التي تخطّها الآلهة، وفق المثل القائل: “المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين”. لكن الحياة لم تكن بهذا السخاء، فالقلق في أصل جبلة الإنسان، ولولاه لكان أحد الحيوانات كما في “أوديسة” هوميروس. ومع ذلك تأخّر ظهور مفهوم القلق بصورة مستقلّة عن غيره من الانفعالات والمشاعر والأفكار الإنسانية، بل إنّ تصنيفه كمرض مستقل إلى حدٍّ ما، انتظر حتى القرن التاسع عشر، وإن كان هناك إرهاصات سابقة على ذلك، فقد صنّف الباحث والكاتب الإنكليزي روبرت بيرتون (1577- 1640) في كتابه “تشريح الكآبة” ذكرًا للقلق كحالة مرضية، لكن كأحد مظاهر الحزن أو الخوف. تتابعت الدراسات الطبية والاجتماعية في لَحظ القلق على أثر بيرتون، حتى استقام كأحد أهم الأمراض النفسية في القرن العشرين المنصرم وقرننا هذا، إلى جانب أنّه أحد أهم التمظهرات الفلسفية للإنسان في بحثه عن معنى وجوده.
ومن هنا يتبادر السؤال إلى عقولنا: هل كان الإنسان قبل العصور الحديثة خليًّا من القلق، كأنّه في جنة ديلمون؟
“أكون أو لا أكون؛ هذا هو السؤال”
هذه الجملة جاءت على لسان هاملت إحدى شخصيات شكسبير (1564-1616). وقد كانت دليلًا على القلق وإن لم يذكر بلفظه، فالقلق يأتي من تلك المفاضلة: بين أن أكون أو لا أكون. لقد عانى هاملت من التردّد باتخاذ قرار الانتقام من عمّه قاتل أبيه، ليس لأنّه لا يملك الشجاعة، بل لأنّه لم يستطع أن يكون حرًّا، فظل رهين القلق، والقلق يُصبح مرضيًا، إن لم يُحسم أمره من قبل الإنسان، وكما يقول المثل السائر للإمام علي: “إذا هبت أمرًا فقعْ فيه”. وإذا عدنا في الزمن وجدنا جلجامش بعد موت صديقه أنكيدو يعاني من ذات السؤال الهامليتي، فما معنى الحياة، إن كان الموت سيختمها! لذلك انطلق بحثًا عن الخلود إلى أن وجد جدّه أتونفشتم الذي أخبره بأنّ الموت قدر من الآلهة، وليس له إلّا أن يلاعب طفله ويداعب زوجته ويأكل رغيفه! هذه النصيحة الأتونفشتيمية سنجدها في فلسفة أبيقور الذي ظُلم بالقول بأنّها فلسفة المتعة!
“اقترح سينيكا بأنّ إحدى طرق الهروب من براثن القلق، تكمن في تكريس انتباه المرء للحاضر بدلًا من القلق بشأن المستقبل”
كان أبيقور أحد الفلاسفة الذين تصدّوا للمخاوف البشرية والقلق من الموت والمستقبل والألم، وغير ذلك، قائلًا بأنّه عندما يحدث الموت لن يكون الإنسان حيًّا، فالموت وعيشه لا يتواجدان معًا، فلماذا الخوف/ القلق من الموت؟ كذلك الألم، فمصير الإنسان أن يتعوّد عليه. أراد أبيقور أن يخفّف من القلق الإنساني وأن يعيش الإنسان الطمأنينة عبر فلسفة للمتعة تتجلّى عبر شغف كبير وتعقّل واسع. لم تختلف الرواقية كفلسفة تقشفية عن الأبيقورية في مقاربتها للقلق، فشيشرون الكاتب والسياسي الروماني كتب رسالة بعنوان “نداء إلى الرواقية” بعد موت ابنته توليا أثناء الولادة، وتعتبر هذه الرسالة مرجعًا في العلاج المعرفي للقلق، لما تحويه من نصائح لقبول الأقدار وعدم الذهاب إلى القلق الفكري الذي شبّهه بالاضطرابات المرضية التي تصيب الجسد؛ فكما للجسد أدويته كذلك للقلق أدويته بالحكمة.
وعلى نفس المنوال كتب الفيلسوف سينيكا كتابًا بعنوان “راحة البال” والمقصد من كلام سينيكا أنّ الإنسان سيكون في راحة بال عندما لا يكون قلقًا، وأهم ما يقلق الإنسان هو الموت، لذلك يقول سينيكا: “من يخاف الموت لن يتصرّف أبدًا كما يليق برجل حي”. تتنبأ هذه الفكرة السينيكية بالطروحات التي سنجدها في فلسفة كيركغارد وهايدغر والفلاسفة الوجوديين حول القلق الأساسي الناجم عن إدراك الإنسان أنّ وجوده محدود. لقد اقترح سينيكا بأنّ إحدى طرق الهروب من براثن القلق، تكمن في تكريس انتباه المرء للحاضر بدلًا من القلق بشأن المستقبل. وقد ذكر في كتاب آخر له بعنوان “عن قصر الحياة” توصية بدمج الماضي والحاضر والمستقبل في زمن واحد، هكذا يطيل الإنسان حياته عبر دمج كلّ الأزمنة في زمن واحد. لم يكن القلق غائبًا عن تفكير الإنسان عبر العصور، لكن الذي وضع له فلسفة كان سورين كيركغارد الدانماركي.
يُعدّ الفيلسوف سورين كيركغارد في كتابه “مفهوم القلق” أول من ربط القلق بأصل نشأة الإنسان
هذه الرؤى الفلسفية التي تتعامل مع القلق الوجودي، تارة من خلال قبوله، وتارة أخرى من خلال مواجهته، لا تبتعد كثيرًا عن رؤية معارضة لها إن صح التعبير؛ وهي رؤية الحكيم بوذا. لقد كان بوذا يرى بالوجود عبارة عن “دوكة”، أي بحر من المعضلات والعواطف والأفكار السيئة والأقدار القاسية، ولكي يخرج الإنسان منها كالشعرة من العجين، عليه أن ينهي تعالقه مع الوجود، لكي لا يعود إلى تقمّص جديد وخضوع لأحكام الكارما، ولن يكن ذلك إلّا بمحو القلق من حياته، ولا ينجز ذلك، إلّا بأن يمشي الإنسان على نهر هيراقليطس، وذلك لا يكون إلّا بإيقاف الخوف من الموت والمرض والرغبة بالحاجات الدنيوية. أو بعبارة أخرى، فإذا كان القلق زهرة الوجود آكلة اللحم البشري، فالدواء يكون بالخروج من الوجود إلى النيرفانا، حيث لا وجود ولا عدم.
القلق والفلسفة
يُعدّ الفيلسوف سورين كيركغارد (1813-1855) في كتابه “مفهوم القلق” أول من ربط القلق بأصل نشأة الإنسان، وإن لم يكن الأمر على صعيد أنثروبولوجي، فهو عندما أراد تفسير القلق الإنساني ومنابعه النفسية، لجأ إلى مفهوم “الخطيئة الأصلية”، وفق تسمية القديس أوغسطين لها (354-430) وذلك ليعالج مفهوم الحرية أو معضلة الاختيار التي وقع فيها أبو البشرية، والأحرى هو شخصيًا، أو أي إنسان آخر، فالإله عندما حرّم على آدم أن يذوق شجرة المعرفة لم يكن آدم يدري عن حريته شيئًا إلى جانب قدرته على الالتزام بأمر الإله أو مخالفته له، قبل ذلك، لكن هذا المنع الإلهي أيقظ في آدم شعوره بالحرية وقدرته على الاختيار، وحتى مخالفة أمر الإله! ومن هذا التحليل كانت مقولة كيركغارد عن أنّ القلق هو: “دوار الحرية”، فالقلق يضع الذات الإنسانية في مواجهة مع نفسها، عندما تكتشف محدوديتها أمام لا محدودية الوجود، أو بمقولة أخرى وفق كيركغارد، بأنّ الروح الإنسانية هي توليفة بين المتناهي واللامتناهي، وكأنّ الإنسان عليه أن يصنع معناه، على الرغم من محدودية قدراته، أمام معنى الكون المطلق، لذلك يعتبر كيركغارد أبو المذهب الوجودي قبل الفيلسوف مارتن هايدغر وجون بول سارتر. إذًا القلق، هو السؤال عن معنى وجود الإنسان على هذه الأرض، فالقلق هو (ألـ) التعريف التي على الإنسان أن يضعها في أول كل النكرات والمجهولات في هذا الوجود، حتى تتحوّل إلى معارف وتطمئن نفسه، فالقلق موجود بوجود الإنسان، من الكهف لناطحة السحاب.
“يعتبر جان بول سارتر بأنّ الوجود يسبق الجوهر، فلا جوهر سابق للإنسان قبل الفعل، على عكس ما تطرحه الأديان أو الأيديولوجيات الشمولية التي ترى بالإنسان جزءًا من منظومة سماوية أو أرضية تمنحه المعنى قبل وجوده”
أمّا الفيلسوف الثاني الذي درس مفهوم القلق، فقد كان الألماني مارتن هايدغر، فيلسوف الكينونة أو الجوهر الإنساني، وكان يرى بأنّ الإنسان يصاب بالقلق لأنّه غير قادر على أن يكون ذاته ولأنّ وجوده مزيّف، وحتى يحقّق الإنسان ذاته، عليه أن يخرج من عالم الزيف إلى عالم التحقّق، بأن يكون أصيلًا في هذا الكون فردًا يدرك كينونته في نهر هيراقليطس الذي لا تستطيع أن تستحم به إلّا مرّة واحدة.
ويعتبر فيلسوف الوجودية جان بول سارتر بأنّ الوجود يسبق الجوهر، فلا جوهر سابق للإنسان قبل الفعل، على عكس ما تطرحه الأديان أو الأيديولوجيات الشمولية التي ترى بالإنسان جزءًا من منظومة سماوية أو أرضية تمنحه المعنى قبل وجوده. إذًا جوهر الإنسان لاحق لوجوده وفق سارتر، وقيام هذا الجوهر أو المعنى لا يكون إلّا بالفعل، وكأنّنا مع مقولة هاملت: “أكون أو لا أكون، هذا هو السؤال”، فالقلق الوجودي الذي يعتري الإنسان متأتّى من سؤاله الذاتي عن معنى وجوده وكيف يصنعه بإرادته، فالإنسان مسؤول كلية عن أفعاله لذلك هو صانعها. هذه النظرة الفلسفية من قبل سارتر كانت تدعو الإنسان لتحمّل أعباء وجوده ومواجهتها، ولا يجب له أن يهرب من هذا القلق، فبه تُولد ذاته.
وعلى نفس المنوال ترى شريكة سارتر، سيمون دو بوفوار، بأنّ الإنسان مثل رجل على جزيرة مهجورة، عليه أن ينهض بأسس حياته لوحده. ما وجدته دو بوفوار في طبيعة الإنسان هو أنّه يرى القلق باعتباره المظهر المزعج للحرية، لذلك يهرب منه إلى منظومات دينية وأيديولوجية تحميه من عبء السؤال الوجودي وحريته، كأنّه أحد بحارة أوديسيوس، لكنّه بذلك سيفقد معناه متقنعًا بطمأنينة زائفة.
إنّ راحة البال التي تكلّم عنها سينيكا، وفق رؤية الفلاسفة المعاصرين، تكمن في تقحّم قلقنا من الحياة التي وجدنا فيها رغما عنّا. وكما صنع الإله آدم من طين، على الإنسان أن يصنع ذاته من تلك الأشياء التي تثير قلقه، فالإنسان لو ظلّ طينًا لكان أشبه بالفخارة التي مصيرها أن تنكسر. كذلك لو ظلّ خاضعًا لقلقه من دون توجيهه على مثال بيت المتنبي مع “قَلَقه” كما يطيب لمفسّري ديوانه في زمننا أن يشرحوا بيته هذا، مع أنّ المتنبي كان على “قَلِق” بكسر اللام، وهو صفة لحصانه المضطرب دومًا، لكن لا خلاف، فالشاعر الجاهلي كان يلقي على حيوانه صفات من شخصيته، وهنا ألبس المتنبي حصانه القلِق قلَقه كما نفخ الإله الروح في الطين.
لا حل لنا في مواجهة قلق أزمنتنا، إلّا بأن نكون كالمتنبي عبر جعل قلقنا حصانًا نركبه في أي اتجاه، فليست الريح هي من تنفخ أشرعتنا وتدفعها إلى الإبحار فقط، بل الدفة/ نحن، من نهيئ الزاوية المناسبة لتتوالف الريح والأشرعة، المتناهي واللامتناهي والقلق والوجود الإنساني.
*كاتب من سورية.
شارك هذا المقال