ملخص
بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية سلمت معظم الميليشيات اللبنانية أسلحتها إلى الدولة، باستثناء “حزب الله” الذي احتفظ بسلاحه بدعم سوري وإيراني تحت ذريعة “مقاومة الاحتلال”. هذا الاستثناء أسس لواقع ازدواجي أطاح مشروع الدولة السيادية. التجربة تذكر بتفكيك سلاح “منظمة التحرير الفلسطينية” بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، حيث فرض لاحقاً حصر السلاح بيد الدولة. اليوم، مع التغيرات الإقليمية والانهيار الداخلي، يتصاعد الإجماع على ضرورة إنهاء ظاهرة السلاح الخارج عن الشرعية لضمان استقرار لبنان.
يتجدد الجدل في لبنان حول سلاح “حزب الله”، مستعيداً ذكريات مرحلة نهاية الحرب الأهلية اللبنانية و”اتفاق الطائف” الذي أنهى رسمياً الحرب الدامية عام 1989، وفرض تسليم الميليشيات اللبنانية جميع سلاحها إلى الدولة اللبنانية الشرعية، لكن ما حدث آنذاك لم يكن على قدر النص، إذ إن الظروف الإقليمية والدولية حالت دون تطبيق الاتفاق بالكامل، بل سمحت باستمرار وضع استثنائي هو بقاء سلاح “حزب الله”، مما أصبح مع مرور الزمن واحداً من أكثر الملفات تعقيداً على الساحة اللبنانية.
فحين وضعت الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها بعد 15 عاماً من الصراع، كان الاتفاق واضحاً، إذ نص “الطائف” على ضرورة تسليم كل الفصائل اللبنانية سلاحها إلى الدولة، والانتظام في مشروع وطني لبناء مؤسسات الدولة وإعادة الإعمار. بالفعل، باشرت الميليشيات المختلفة بتنفيذ هذا الاتفاق بطرق متعددة، فـ”القوات اللبنانية” برئاسة سمير جعجع مثلاً، باعت معظم أسلحتها بصورة رسمية أو غير رسمي، كما قام الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط بتسليم القسم الأكبر من سلاحه إلى النظام السوري الذي كان يدير المشهد اللبناني حينها، كذلك فعلت “حركة أمل” برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه بري، التي سلمت معظم ترسانتها العسكرية للدولة اللبنانية أو للقوات السورية بصورة تدريجية.
لكن الاستثناء الوحيد كان “حزب الله”، الذي احتفظ بسلاحه تحت ذريعة استمرار المواجهة مع إسرائيل، وبدعم مباشر من النظام السوري وإيران، مما جعل من سلاحه قضية مختلفة تماماً عن بقية الأطراف، ليظل منذ ذلك الحين يمثل قوة عسكرية خارج الشرعية اللبنانية الرسمية.
البيانات الوزارية
لم يقتصر الأمر على غض الطرف فحسب، بل حظي سلاح “حزب الله” بغطاء سياسي واضح عبر البيانات الوزارية للحكومات اللبنانية المتعاقبة، خصوصاً في فترة الوصاية السورية التي امتدت حتى عام 2005. وقد تجلى هذا الغطاء، بصورة أوضح، بعد الانسحاب السوري من لبنان، من خلال اعتماد صيغة “الجيش والشعب والمقاومة” في البيانات الوزارية، وهو ما شكل تغطية قانونية وسياسية للسلاح غير الشرعي، وتكريساً لوضع استثنائي ظل سنوات طويلة من دون معالجة حقيقية.
فبعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وخروج جيش النظام السوري من لبنان، دخل الملف مرحلة جديدة، إذ بدأ المجتمع الدولي يضغط باتجاه تطبيق القرارات الدولية، لا سيما القرارات 1559 و1680 و1701، التي نصت، صراحة، على ضرورة نزع سلاح مختلف الميليشيات وتسليمها إلى الدولة اللبنانية. وعلى رغم هذه الضغوط، تمكن “حزب الله” من الالتفاف على هذه القرارات من خلال اعتماد استراتيجية مزدوجة، فمن جهة أكد تمسكه بالسلاح بحجة الدفاع عن لبنان ضد إسرائيل، ومن جهة أخرى استخدم قوته السياسية للضغط على الداخل اللبناني، مانعاً أي محاولة حقيقية لفتح هذا الملف بصورة جدية.
الحروب مع إسرائيل
في يوليو (تموز) 2006 دخل لبنان في حرب قاسية مع إسرائيل استمرت 33 يوماً، وأسفرت عن تدمير واسع للبنية التحتية اللبنانية. عقب هذه الحرب صدر القرار الدولي 1701، الذي أنهى العمليات العسكرية بين الجانبين وطالب بتسليم سلاح “حزب الله” للدولة، لكن الحزب أعاد استخدام تكتيك التملص من الالتزامات الدولية، مستفيداً من دعم إيراني صريح، وموقف داخلي منقسم سياسياً.
بولس 2.png
البيانات الوزارية للحكومات اللبنانية كرَّست “شرعية” سلاح “حزب الله” من خلال معادلة “الجيش والشعب والمقاومة” (الوكالة الوطنية اللبنانية)
لكن الواقع اليوم يختلف جذرياً عن مرحلة ما بعد 2006، فالمعادلة الإقليمية والدولية تشهد تغيرات واضحة. الأزمة الاقتصادية والسياسية في لبنان، إلى جانب تزايد الضغوط الدولية والإقليمية لتطبيق “اتفاق الطائف” بصورة كاملة، جعلت من قضية السلاح موضوعاً أكثر إلحاحاً على المستوى الداخلي والخارجي.
تبدو الظروف الحالية مختلفة تماماً عن السابق، إذ يتشكل تدريجاً إجماع داخلي ودولي حول ضرورة إنهاء هذه الحالة الاستثنائية. الأطراف اللبنانية التي كانت سابقاً تتجنب الحديث المباشر عن سلاح “حزب الله”، أصبحت اليوم أكثر وضوحاً في مطالبتها بنزع السلاح تطبيقاً لـ”اتفاق الطائف”. القوى الدولية، خصوصاً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تضغط بصورة مباشرة على لبنان لتطبيق القرارات الدولية، معتبرة أن استقرار لبنان وإعادة بنائه لا يمكن أن يتم في ظل وجود سلاح خارج سيطرة الدولة.
في المقابل يتمسك “حزب الله” بموقفه، معتبراً أن السلاح “خط أحمر”، ويكرر قادته التصريحات التي تؤكد رفض تسليم السلاح، مستندين إلى ما يعتبرونه “شرعية المقاومة”. وهذا ما يجعل الوضع في لبنان مفتوحاً على احتمالات متعددة، من التصعيد السياسي وربما الأمني، إلى إمكان الوصول إلى تسوية سياسية قد تفرضها الظروف الدولية والإقليمية.
وبالعودة إلى تسليم سلاح الميليشيات اللبنانية في نهاية الحرب الأهلية، تنفيذاً لـ”اتفاق الطائف” عام 1989. يبدو أن التجارب لم تكن موحدة، فطريقة تسليم السلاح وآليات التطبيق تنوعت واختلفت بين ميليشيات وأخرى. ومن أبرز التجارب التي تعكس هذا التنوع، تجربتا حزب القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي”، إذ اتخذ قرار تسليم الأسلحة في إطار تطبيق بنود “اتفاق الطائف”، والذي نص بوضوح على حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية عبر حل الميليشيات المسلحة. وتم تبليغ قادة الميليشيات رسمياً من قبل الجيش اللبناني بإشراف لجان لبنانية وعربية متخصصة، شكلت لهذا الغرض.
مساران متلازمان
فيما تبدي أوساط من تلك الحقبة أن قرار حل الميليشيات في لبنان كان مرتبطاً بمسارين متلازمين: استيعاب العناصر المقاتلة وتسليم السلاح الثقيل، إلا أن التنفيذ لم يتم بشكل متوازن، نتيجة بدء عهد الوصاية السورية، وإشراف النظام السوري المباشر على تطبيق اتفاق الطائف.
تشير المعطيات إلى أن عملية استيعاب المقاتلين شهدت تمييزاً واضحاً، إذ جرى الضغط لاستبعاد عناصر حزب “القوات اللبنانية” من الانخراط في مؤسسات الدولة، بينما تم استيعاب أعداد كبيرة من عناصر “حركة أمل”، وأعداد أقل من “الحزب التقدمي الاشتراكي”.
وفي ما يتعلق بالسلاح، أعاد “الحزب التقدمي الاشتراكي” قسماً من عتاده الثقيل إلى سوريا، بما في ذلك دبابات من طراز “T-54″، وسلم أربع دبابات من طراز “M-48” إلى الجيش اللبناني، لكنه احتفظ بجزءٍ كبير من ترسانته الخاصة.
أما “القوات اللبنانية”، فقد سلمت الجيش اللبناني كامل أسلحتها الثقيلة، لا سيما الدبابات الأميركية من طراز “M-48” والمدرعات المصفحة “M-113″، وسط تأكيدات أن بيع هذا العتاد لم يكن خياراً مطروحاً بفعل القيود المفروضة على الأسلحة الأميركية الصنع.
من جهتها، لم تكن “منظمة التحرير الفلسطينية” تمتلك مدرعات ثقيلة داخل لبنان، مما جعل مسألة تسليم الأسلحة ترتكز على الأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
وفي سياقٍ آخر، لم يشر أي بيان وزاري صادر بعد “الطائف” صراحة إلى “حزب الله” أو ما يسمى “المقاومة الإسلامية” بالاسم، بل تم الاكتفاء بالإشارة العامة إلى “حق المقاومة”، مما أتاح التغطية السياسية الواسعة لاستمرار سلاح الحزب خارج إطار الدولة، تحت مظلة شرعية مبهمة.
بولس 3.png
الحزب التقدمي الاشتراكي سلم غالبية سلاحه للنظام السوري الذي كان يسيطر على لبنان حينها (أ ف ب)
تجربة “القوات اللبنانية”
تعد تجربة “القوات اللبنانية” من أكثر التجارب تعقيداً وحساسية، بخاصة أن الميليشيات كانت تمتلك ترسانة عسكرية كبيرة ومتنوعة، ويوصف بعض الخبراء العسكريين بأن الترسانة تضاهي قوة “حزب الله”، إذ امتلكت “القوات” طائرات مروحية وطرادات بحرية، وبدأت عملية تسليم السلاح عام 1991، بإشراف مباشر من قيادة الجيش اللبناني.
تم إبلاغ مسلحي “القوات” بقرار تسليم السلاح من خلال أوامر داخلية مباشرة من قيادة الحزب. وقد استجاب معظم العناصر بصورة سلمية وهادئة، على رغم بعض الاعتراضات والاحتجاجات الداخلية التي تم التعامل معها بحزم من قيادة “القوات”، لضمان الالتزام الكامل بالقرار.
وتم تسليم الأسلحة التي تضمنت رشاشات خفيفة ومتوسطة، وصواريخ مضادة للدروع، ومدافع هاون، إضافة إلى أسلحة ثقيلة مثل دبابات ومدافع ثقيلة ومدافع مضادة للطائرات، إلى الجيش اللبناني مباشرة، فيما بيعت كميات أخرى من الذخائر والأسلحة الخفيفة إلى جهات خارجية بطريقة شرعية ومراقبة دولية، لتمويل عمليات إعادة هيكلة الحزب سياسياً واجتماعياً.
أما لناحية التعامل مع مسلحي “القوات”، فقد تم دمج قسم منهم في المؤسسات الرسمية اللبنانية كالقوى الأمنية أو الجيش اللبناني، بينما اختار عدد آخر العودة إلى الحياة المدنية أو الانتظام في مشاريع خاصة أو السفر إلى الخارج.
بولس 5.png
“حركة أمل” سلمت القسم الأكبر من ترسانتها للجيش اللبناني والنظام السوري (أ ف ب)
تجربة الحزب التقدمي الاشتراكي
تجربة الحزب التقدمي الاشتراكي اتسمت بنوع آخر من التعقيد، نظراً إلى العلاقة الوثيقة التي كانت تربطه بالنظام السوري. تم تبليغ مسلحي الحزب بقرار تسليم السلاح عبر سلسلة اجتماعات عقدتها قيادات الحزب مع مسلحيها وقواعدها الشعبية.
تم تسليم غالبية أسلحة الحزب إلى جيش النظام السوري مباشرة، والذي كان مسيطراً على أجزاء واسعة من لبنان في تلك الفترة، بسبب طبيعة العلاقة بين قيادة الحزب والنظام السوري. وشملت هذه الأسلحة رشاشات خفيفة ومتوسطة، وقذائف هاون، وأسلحة مضادة للدروع، إضافة إلى صواريخ قصيرة المدى.
بعض الأسلحة الثقيلة، مثل المدافع وناقلات الجند المدرعة، تم نقلها إلى سوريا أو سلمت للجيش اللبناني بصورة محدودة جداً. وتعامل الحزب مع المسلحين بطريقة مشابهة لـ”القوات”، إذ تم دمج قسم كبير منهم في المؤسسات الرسمية اللبنانية بدعم وتسهيلات من القيادة السورية، فيما قرر آخرون الاعتزال أو الانتظام في العمل السياسي والمدني.
الاستثناءات أضاعت الفرصة
وفي السياق أشار مدير مركز المشرق للدراسات الاستراتيجية سامي نادر، “إلى أن تجربة تسليم السلاح في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية كان من الممكن أن تشكل نقطة انطلاق حقيقية لإعادة بناء الدولة وتعزيز سيادتها الوطنية”، ورأى أن “الطائف” “وفر أساساً قانونياً متيناً لحصر السلاح بيد الشرعية، بالتالي إنهاء ظاهرة الدويلات العسكرية التي نشأت خلال الحرب. إلا أن المشكلة الأساسية تمثلت في عدم تطبيق هذا الاتفاق بصورة شاملة وعادلة على جميع الأطراف. فقد تم استثناء (حزب الله) من عملية تسليم السلاح بذريعة استمرار الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، وهو استثناء فرضته ضغوط إقليمية مباشرة، خصوصاً من النظام السوري الذي كان يمسك بالقرار اللبناني آنذاك، وبدعم من إيران التي كانت تعمل على تعزيز نفوذها عبر الحزب”. واعتبر نادر “أن هذا الاستثناء كان بمثابة تفخيخ لعملية بناء الدولة، لأنه أبقى على سلاح غير شرعي داخل النسيج اللبناني، مما أنتج خللاً جوهرياً في توازن القوى الداخلية”، وأكد أن لبنان خسر بذلك فرصة تاريخية لإعادة تكريس هيبة مؤسساته العسكرية والمدنية واستعادة القرار السيادي بالكامل. وخلص إلى أن هذا الخلل المستمر حتى اليوم، أسهم في إضعاف الدولة اللبنانية أمام الأزمات المتلاحقة، وجعلها في كل مرة عاجزة عن فرض سلطتها الكاملة، سواء في القرارات الاستراتيجية الكبرى أو في حماية الأمن الداخلي. ورأى أن تصحيح هذا الخطأ التاريخي يبدأ بإعادة إحياء مبادئ “الطائف”، وتنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بنزع سلاح القوى الخارجة عن إطار الشرعية اللبنانية.
وأوضح المتخصص في الشؤون اللبنانية والإقليمية وليد فارس “أن عملية تسليم السلاح، التي انطلقت بعد الحرب الأهلية، كانت ناجحة من الناحية الفنية والتنفيذية في بداياتها. فقد استطاع الجيش اللبناني، بدعم سياسي إقليمي ودولي، أن يستعيد السيطرة على كميات كبيرة من الأسلحة، وأن يعيد هيكلة عديد من الميليشيات ضمن مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية”، غير انه شدد على أن النجاح الفني لم يستكمل على المستوى الاستراتيجي بسبب غياب المساواة في التطبيق، “إذ تم تفكيك بعض الميليشيات بصورة كاملة، فيما احتفظ بقوى مسلحة أخرى بحجج سياسية أو أمنية ظرفية. أبرز مثال على ذلك هو إبقاء سلاح (حزب الله) خارج إطار الدولة، على رغم انتهاء معظم العمليات العسكرية مع الاحتلال الإسرائيلي لاحقاً”. وبحسب فارس، “هذا التفاوت في التنفيذ أحدث اختلالاً بنيوياً في هيكلية الأمن القومي اللبناني. فبينما التزمت بعض القوى بتسليم سلاحها واندماجها الكامل في الدولة، احتفظت قوى أخرى بقواها العسكرية كأدوات ضغط سياسية وأمنية، مما أدى إلى تهميش مؤسسات الدولة الرسمية وإضعاف قدرتها على فرض السيادة الوطنية الشاملة”، وأشار إلى أن نتائج هذا التفاوت لا تزال تلقي بظلالها على لبنان حتى اليوم، “إذ تعاني البلاد من انقسامات أمنية، وتوازنات قوة غير رسمية، وتدخلات خارجية مستمرة”، ولفت إلى أن “السبيل الوحيد للخروج من هذه الحلقة المفرغة هو فرض المساواة الكاملة في تطبيق مبدأ حصرية السلاح من دون استثناءات أو أعذار ترتبط بالظروف الإقليمية”.
فشل في الشمولية
وقال المتخصص في مجال العلوم السياسية في “الجامعة اللبنانية” فادي أحمر “إن عملية تسليم السلاح كانت واحدة من أهم الخطوات الجريئة التي اتخذها لبنان بعد حرب أهلية دمرت الكيان الوطني أكثر من 15 عاماً. فقد كان من الضروري أن يعود احتكار العنف الشرعي للدولة، وأن يفكك النظام الميليشياوي الذي أنتج الفوضى والانقسام، لا أن التطبيق العملي جاء متفاوتاً بصورة خطرة. فبينما التزمت بعض القوى بصورة كاملة، مثل القوات اللبنانية التي سلمت معظم أسلحتها الثقيلة والمتوسطة للجيش اللبناني مباشرة، شهدنا تجارب أخرى أقل التزاماً، كما في حال الحزب التقدمي الاشتراكي الذي قام بتسليم جزء من السلاح، لكنه أبقى قسماً آخر بترتيبات ضمنية مع النظام السوري”. ورأى أحمر “أن هذا التفاوت لم يكن مجرد خطأ تنفيذي، بل كان نتيجة مباشرة للنفوذ الإقليمي المتشابك، خصوصاً من جانب سوريا التي كانت تحرص على التحكم بالمشهد اللبناني عبر السماح لبعض القوى بالاحتفاظ بجزء من قدرتها العسكرية”، وأكد “أن هذا الوضع قوض فاعلية عملية بناء الدولة وأبقى لبنان رهينة توازنات سلاحية غير رسمية، أدت لاحقاً إلى انفجارات سياسية وأمنية في محطات عديدة. وإن تجاوز هذه الإشكالية يتطلب الآن مقاربة شاملة تقوم على إنهاء ظاهرة التسلح غير الشرعي بلا تمييز أو محاباة”.
كرست الازدواجية
واعتبرت الأكاديمية والمحللة السياسية منى فياض “أن تجربة تسليم السلاح في لبنان كانت ذات بعدين متناقضين، فمن ناحية، عززت هذه الخطوة صورة الدولة اللبنانية، وأعطت زخماً للجيش والقوى الأمنية الرسمية لاستعادة حضورها في المشهد الوطني، مما أسهم بإطلاق عملية إعادة بناء المؤسسات الشرعية عقب الحرب الأهلية، لكن من ناحية أخرى، خلقت هذه التجربة نوعاً خطراً من الازدواجية البنيوية، إذ إن استثناء (حزب الله) من التسليم الكامل للسلاح، أوجد كياناً مسلحاً موازياً ظل يتمتع بشرعية سياسية واجتماعية واسعة، لكنه في الواقع أسس لنموذج الدولة داخل الدولة”. ورأت فياض أن هذه الازدواجية “حالت دون تحقيق السيادة الكاملة للدولة، وأبقت المؤسسات اللبنانية الرسمية في موقع دفاع دائم، خصوصاً عند كل استحقاق أمني أو سياسي حاد. كما أسهمت في تعميق الانقسامات الداخلية وأضعفت فكرة الانتماء المشترك إلى دولة واحدة”. وأكدت “أن تفاقم الأزمة اللبنانية المستمرة، سياسياً وأمنياً، هو إلى حد كبير نتاج هذه الثغرة الهيكلية التي زرعت في صلب مشروع الدولة منذ اللحظة الأولى لتطبيق الطائف”. ورأت أن الخروج من هذه الأزمة يتطلب إنهاء ازدواجية السلاح والقرار بصورة قاطعة، وإعادة الاعتبار لمبدأ احتكار الدولة وحدها للقوة الشرعية.
رئيس أركان “القوات اللبنانية” فؤاد مالك يدلي بتصريح لحظة تسليم سلاح الحزب الجوي إلى الجيش (موقع القوات اللبنانية)
رئيس أركان “القوات اللبنانية” فؤاد مالك يدلي بتصريح لحظة تسليم سلاح الحزب الجوي إلى الجيش (موقع القوات اللبنانية)
من “منظمة التحرير” إلى “حزب الله”
وضعية “حزب الله” العسكرية تعيد إلى الأذهان أيضاً تجربة “منظمة التحرير الفلسطينية” في لبنان. فكما أن الحرب الإسرائيلية على “حزب الله” أضعفت قوته العسكرية وأعادت طرح ملف السلاح بجدية داخل لبنان، كانت الحرب الإسرائيلية عام 1982 قد فعلت الشيء نفسه مع “منظمة التحرير” التي تحولت آنذاك إلى دولة داخل الدولة اللبنانية، وكادت تفرض لبنان وطناً بديلاً للفلسطينيين.
خلال السبعينيات أسست “منظمة التحرير” قاعدة عسكرية ضخمة في لبنان امتلكت فيها دبابات ومدافع وشبكات اتصال مستقلة. هذا النفوذ الذي نما على حساب الدولة اللبنانية، انهار جزئياً مع الاجتياح الإسرائيلي الذي دمر القدرات العسكرية للمنظمة، وأجبرها على الخروج إلى تونس. وعلى رغم أن السلاح الفلسطيني لم ينزع بالكامل، فإن الضربة فتحت الباب أمام “اتفاق الطائف” الذي نص بوضوح على حل كل الميليشيات ونزع سلاحها، بما في ذلك السلاح الفلسطيني خارج المخيمات.
بالفعل، بعد “الطائف” وتحت الوصاية السورية، تمت مصادرة الأسلحة الفلسطينية الثقيلة خارج المخيمات، لكن السلاح الخفيف والمتوسط ظل داخل المخيمات الفلسطينية، حيث استخدمه النظام السوري لاحقاً كورقة ضغط في صراعاته الداخلية والإقليمية، مما أدى إلى استمرار ظاهرة “المربعات الأمنية” في لبنان، التي شكلت قنابل موقوتة داخل الدولة.
هذا المشهد يقارب إلى حد بعيد تجربة “حزب الله”. فبعد تحرير الجنوب عام 2000، راكم الحزب ترسانة عسكرية ضخمة مدعومة من إيران، حتى بات أقوى من الدولة نفسها في بعض النواحي. جاءت الحرب مع إسرائيل لتفتح الطريق من خلال القرارات الدولية، وعلى رأسها 1701 ضرورة حصر السلاح بيد الشرعية اللبنانية.
إلا أن المشهد مع “حزب الله” أكثر تعقيداً. فبعكس “منظمة التحرير”، الحزب جزء متجذر في النسيج اللبناني وله قاعدة شعبية واسعة. ومع ذلك فإن الأوضاع الإقليمية والدولية الضاغطة، والانهيار الداخلي في لبنان، تجعل اللحظة الراهنة مواتية للدفع باتجاه تطبيق “الطائف” بالكامل، وإنهاء ظاهرة السلاح الخارج عن الدولة. التجربة الفلسطينية أظهرت أن إبقاء السلاح في مربعات مغلقة يؤدي إلى تهديد دائم للاستقرار. واليوم، لبنان في حاجة إلى استعادة دولته كاملة، عبر إنهاء مشروع “الدويلة داخل الدولة”، وضمان انتقال آمن ومدروس لكل القوى المسلحة إلى حضن الشرعية، تجنباً لتكرار مآسي الماضي.