استعار الأتراك عبارة “جنتا” (Junta) من الإسبان، وهم يستخدمونها منذ عقود في توصيف القيادات والمجالس العسكرية الانقلابية التي أدارت شؤون البلاد 4 مرّات بين 1960…
طبعاً كان لافتاً اشتعال الحدود الباكستانية – الهندية خلال وجود رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف في العاصمة التركيّة. لكنّ اللافت أكثر هو اللقاءات التركية – الباكستانية المكثّفة التي تجري “لتبادل وجهات النظر في التطوّرات الأخيرة في المنطقة وخارجها باعتبارهما حليفين قديمين وشريكين استراتيجيَّين”، كما تقول الخارجية الباكستانية.
بعد مرور حوالي شهرين على زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لباكستان في إطار جولة آسيوية شملت ماليزيا وإندونيسيا، شهدت توقيع اتّفاقات تعاون عسكري وتجاري، حطّت طائرة رئيس الوزراء الباكستاني في مطار العاصمة التركية، بهدف “توسيع رقعة التعاون الثنائي في العديد من المجالات والملفّات الإقليمية الساخنة”، الأمر الذي يستدعي هذا التحرّك المكثّف والسريع على خطّ أنقرة – إسلام آباد، كما يردّد البعض في العاصمة التركية.
من الممكن أن يكون التعاون التركي – الباكستاني المتزايد في الأعوام الأخيرة وعقود تبادل الخبرات والخدمات في مجالات التصنيع العسكري المشترك لزيادة فرص الاكتفاء الذاتي، على رأس قائمة أسباب توسيع دائرة بيكار الاتّفاقات بين البلدين. لكنّ الشقّ التجاري الذي قد يشمل مواجهة الخطّ التجاري الهندي الذي يستبعدهما، وخطط التعاون في مجال الطاقة ومساهمة تركيا في استخراج وتسويق مخزون الغاز في المياه الإقليمية الباكستانية بما يمثّله من ثقل إقليمي ودولي، له الأولويّة هذه المرّة.
ما الذي يُقلق إسلام آباد وأنقرة؟
ما الذي يعنيه وجود نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في الهند قبل أيّام وبعد شهرين من لقاء رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس الأميركي دونالد ترامب في واشنطن؟ (في إطار مساعي البلدين لتعزيز علاقاتهما الاقتصادية والسياسية حسب البيت الأبيض. وبحث سبل تعزيز العلاقات الثنائية، إضافة إلى تبادل وجهات النظر حول تطورات إقليمية ودولية ذات اهتمام مشترك، بحسب وزارة الخارجية الهندية؟) هل هناك قرار غربي بتحريك ورقة الهند في آسيا؟ وهل هذا ما يُقلق إسلام آباد وأنقرة؟
الهند قد تشعر بأنّ تعزيز التعاون التركي – الباكستاني السياسي يمكن أن يقوّي موقف باكستان في النزاع القائم على إقليم كشمير
ترى تركيا في توسيع رقعة التعاون مع باكستان فرصة للتمدّد الاستراتيجي الأوسع في آسيا. وتعوّل باكستان على الخروج من أزماتها الاقتصادية والبحث عن شريك إقليمي يساهم في موازنة سياسة التسلّح الهندي وخطر هذا “البعبع”، فلِم لا يقرّب ذلك بين البلدين؟
مشروع “الممرّ التجاري الهندي” العابر لآسيا باتّجاه أوروبا والذي تدعمه أميركا وبعض العواصم الإقليمية ليكون منافساً لخطّ “الحزام والطريق” الصيني، الذي تعوّل عليه تركيا ليكون جزءاً من خطط تمدّدها التجاري الاستراتيجي، هو من الأمور التي تستدعي طرح استراتيجية تركية – باكستانية مشتركة لموازنة النفوذ الهندي.
باكستان
لا تبحث أنقرة عن امتلاك سلاح نووي، لكنّ التلويح الإيراني – الإسرائيلي الدائم بتحريك ورقة هذا السلاح هو الذي سيقرّبها أكثر من إسلام آباد، إذ بات الملفّ النووي في قلب لعبة التوازنات الإقليمية الجديدة. فهل تقرع أبواب باكستان في محاولة لتمرير رسائل ذات طابع إقليمي لإيران وإسرائيل؟ وهل تصل الأمور إلى تخلّي إسلام آباد عن تعهّداتها الدولية بالبقاء على الحياد في هذا المجال، وأن تقرّر تقاسم المعلومات والخبرات مع أنقرة، خصوصاً في ضوء المتغيّرات والتحدّيات الإقليمية والعالمية القائمة؟
على الجانب التركي، لن يدفع عدم تبديل إسرائيل وإيران لسياستهما النووية أنقرة إلى التريّث طويلاً حتّى لو كان ثمن ذلك الدخول في مواجهة مفتوحة مع الغرب.
لعبة موازين القوى الإقليميّة
يقوّي التحرّك التركي موقف باكستان في مواجهة ضغوط اقتصادية وعسكرية وجيوسياسية هندية. في المقابل تسهّل إسلام آباد لأنقرة سدّ الفراغ العسكري في تطوير صناعتها الحربية والوصول إلى مصادر الطاقة الباكستانية لتوسيع رقعة نفوذها وتمدّدها في آسيا. إذاً من الطبيعي أن يثير التقارب التركي الباكستاني الكثير من علامات الاستفهام في واشنطن شريكة البلدين، التي قرّرت لعب الورقة الهندية لمواجهة النفوذ الصيني والروسي. لكنّ الأهمّ هي المخاوف التي سيتسبّب بها لدى البعض مثل الهند وإيران وإسرائيل، ولكلٍّ منهم أسبابه في لعبة موازين القوى الإقليمية القائمة:
ترى تركيا في توسيع رقعة التعاون مع باكستان فرصة للتمدّد الاستراتيجي الأوسع في آسيا
– الهند قد تشعر بأنّ تعزيز التعاون التركي – الباكستاني السياسي يمكن أن يقوّي موقف باكستان في النزاع القائم على إقليم كشمير. لكنّ ما سيقلق نيودلهي هو سيناريو زيادة التنسيق العسكري بين البلدين الذي قد يساهم في تعزيز قدرات باكستان الحربية.
– إيران من ناحيتها قد تكون حسّاسة تجاه التعاون التركي – الباكستاني في مجالات الأمن الإقليمي، خصوصاً في مناطق الخليج العربي أو على خطّ إيران – أفغانستان وبعد جمود التفاهمات الباكستانية – الإيرانية لاستخراج الغاز من المياه الإقليمية الباكستانية والتحوّل نحو أنقرة.
– إسرائيل بدورها التي أعلنت تضامنها مع الهند قد تشعر بالقلق من تعزيز العلاقات بين تركيا وباكستان في المجالات العسكرية والتكنولوجية وفي سياق التوازن العسكري في المنطقة. العلاقات التركية – الباكستانية قد تُعتبر تهديداً لإسرائيل إذا كان التركيز أكبر على التعاون العسكري ضدّ التهديدات المشتركة في المنطقة، وهو ما سيمنح أنقرة فرصة توسيع نفوذها في جنوب آسيا.
إقرأ أيضاً: الهند – باكستان: حرب الفقراء النّوويّة؟
يقول المثل الشعبي التركي: “الجيران بعضهم بحاجة حتّى إلى رماد البعض الآخر”. لا يمكن فصل التقارب التركي – الباكستاني الاستراتيجي عن التبدّل الحاصل في توازنات الساحة الإقليمية ومحاولة فرض واقع استراتيجي جديد على آسيا، يتقدّمه لعب ورقة توتير العلاقات بين إسلام آباد ونيودلهي. لكنّ الأمور قد تنتهي كما حدث في 4 مرّات سابقة إلى عدم الابتعاد كثيراً عن بيت الطاعة الغربي.