ليس صحيحاً ما يُقال عن أنّ الحكومة العراقية في مقاربتها السوريّة قد تحرّكت بمعزل عن الإملاءات الإيرانية. إيران التي تحكم العراق منذ عام 2006، وهي السنة التي تولّى فيها نوري المالكي الحكم في ولايته الأولى، لا يمكنها أن تترك حكومته، وهي حكومة ضعيفة كالعادة، تقرّر شكل ونوع العلاقة مع دولة، طُردت منها لتوّها وخسرت من خلالها الممرّ الحيوي الذي يصل بينها وبين وكلائها. وكلاء إيران الآن بسبب انقطاع المدد يشعرون باليتم وضعف الحيلة، وهم على وشك أن يسلّموا بالأمر الواقع معترفين بشكل نهائي بهزيمتهم.
كانت العلاقات بين العراق وسوريا سيّئة دوماً بسبب فرعَي حزب البعث المنشقّ على نفسه. هل تحسّنت تلك العلاقات بعد احتلال العراق وانهيار نظام صدّام حسين عام 2003؟ خضع الطرفان سوريا والعراق لعلاجات إيرانية عاجلة لكي تكون الطريق بينهما سالكة. الموالون لإيران من العراقيّين عرفوا الطريق إلى سوريا، وأمّا السوريون فلم يذهبوا إلى العراق الإيراني على الرغم من أنّ اللبنانيين كانوا هم الأسبق في اكتشاف أنّ المال وفير هناك.
كان نظام بشّار الأسد قد فتح أمام الإيرانيين دمشق من بوّابة السيّدة زينب التي دخل منها العراقيون أيضاً. الآن صار على العراقيين بعد التغيير الذي شهدته سوريا أن يدفعوا مبلغاً كبيراً للحصول على التأشيرة السورية التي كانوا يحصلون عليها في الماضي مجّاناً لأنّها لم تكن موجودة أصلاً. قد لا يعرف البعض أنّ سوريا هي الدولة العربية الوحيدة التي لم تكن تفرض على العربيّ شرط الحصول على تأشيرة من أجل دخول أراضيها. ذلك صار من الماضي.
إيران في حاجة إلى مَن يمثّلها في سوريا. لم يعد مرحّباً بها هناك بعدما ساهمت ميليشياتها في ارتكاب مجازر بشعة في حقّ الشعب السوري
بالعودة إلى العلاقات الإيرانية – السورية المرتبكة، ستكون إيران مضطرّة إلى مجاراة المزاج الأميركي والإقليمي من أجل أن تمرّ مفاوضاتها مع الولايات المتّحدة بسلام. ذلك ما يفسّر الإقبال العراقي على المساهمة في الحفلة السوريّة التي فقد الإيرانيون بسببها الطريق التي توصلهم إلى لبنان. سوريا لم تعد إيرانية ولم تعد ترحّب بالعراقيين ولا تثق بإيران، إضافة إلى أنّها يمكن أن تنضمّ إلى حلف عالميّ معادٍ لها. ذلك ما يمكن حدوثه في أيّ لحظة.
حاجة إيران إلى سوريا
إيران في حاجة إلى مَن يمثّلها في سوريا. لم يعد مرحّباً بها هناك بعدما ساهمت ميليشياتها في ارتكاب مجازر بشعة في حقّ الشعب السوري. ولأنّ سوريا في حاجة إلى المال، إضافة إلى حاجة نظامها الحالي إلى أن يحصل على إجماع عربي في مسألة الاعتراف بشرعيّته، وذلك أمر مهمّ بالنسبة للولايات المتّحدة وإسرائيل ومن بعدهما تركيا، فسيكون مقبولاً ولو على مضض أن يكون العراق حاضراً لكي يمثّل المصالح الإيرانية التي ذهبت من غير رجعة.
بهذا المعنى الملتبس يشكّل العراق بوّابة إيران إلى سوريا. وهي بوّابة تحرص إيران على أن تظلّ مفتوحة في انتظار ما يمكن أن يحدث في المستقبل. غير أنّ ذلك وإن حدث رسميّاً، لا ينفي أن يكون هناك موقف عقائديّ مخالف له ومندّد به. ذلك ما كشفت عنه تصريحات زعماء الميليشيات وعدد من النوّاب من ممثّلي الأحزاب الموالية لإيران.
إيران
من المستبعد في هذه اللحظة الحرجة أن تقول إيران رأيها في محاولة التقارب العراقي – السوري، فهي تريد الإبقاء على الإيحاء بأنّ الحكومة العراقية تتحرّك بحرّية واستقلال بمعزل عن موقف الميليشيات والأحزاب الولائية التي سيكتفي ممثّلوها بالتصريحات من غير اللجوء إلى التصعيد، فالتعليمات الإيرانية واضحة: دعوا كلّ شيء يمرّ حسب ما هو مخطّط له، ولكلّ حادث حديث.
يشكّل العراق بوّابة إيران إلى سوريا. وهي بوّابة تحرص إيران على أن تظلّ مفتوحة في انتظار ما يمكن أن يحدث في المستقبل
ذلك كلّه غير غائب عن ذهن الإدارة السوريّة الجديدة والقوى الدولية والإقليمية التي تدعمها، غير أنّه لن يشكّل عقبة في طريق استمرار التقارب الذي سيضمن على الأقلّ اعتراف العراق الرسمي بالنظام السياسي في دمشق، وقد يكون مفيداً لسوريا في المستقبل على المستوى الاقتصادي.
انفتاح حذر ومحدّد
لا يعني كلّ ذلك سوى أنّ هناك انفتاحاً حذراً ومحدّداً سيقع بين البلدين لكي لا تعود العلاقات بينهما إلى ماضيها السيّئ. فما من رغبة لدى الطرفين في التذكير بزمن البعث الذي اختفى بسيّئاته وحسناته. سوريا اليوم هي غير سوريا البعث، وتتطلّع حسب ما تُحاط به من عناية عربية مركّزة إلى أن تستعيد موقعها في محيطها العربي. ذلك ما لم يسعَ إليه العراق عبر العشرين سنة الماضية التي حرصت خلالها إيران على أن يبقى العراق واجهتها في صراعها مع العرب.
إقرأ أيضاً: العراق: القفص إيرانيّ والحارس أميركيّ
سيكون لهذا التناقض الجوهري دوره في صياغة نوع ومستوى العلاقة بين البلدين التي لا يمكن إخفاء ما يشوبها من أساليب إيرانية في النفاق السياسي.