كيف سترسخ الانتخابات الروسية دعائم الحكم الاستبدادي – وتؤجج حالة الصراع الدائم مع الغرب

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حفل مع المنظمات الشبابية، الساحة الحمراء، موسكو، نوفمبر 2023 (غافريل غريغوروف/سبوتنيك/رويترز)

“إذا كان هناك بوتين فهناك روسيا، وإن غاب بوتين فليس ثمة روسيا”، بذلك صرح الموالي العتيد فيتشسلاف فولودين رئيس مجلس الدوما الحالي، وذلك عام 2014. كان يحدد معالم حكم استبدادي نموذجي، تتماهى فيه الدولة مع الحاكم والحاكم مع الدولة. وفي ذلك وقت أدلى فيه فولودين بتلك التصريحات، كان الكرملين يستمتع بمشاعر النشوة الوطنية العارمة في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم. ومع تصاعد ما سمي “الغالبية الموالية لبوتين”، استطاعت الحكومة أن تسرع خطوات التحول نحو مثل هذا النظام مع مباركة شعبية واسعة النطاق.

لكن فولودين كان سابقاً لأوانه قليلاً، حيث إن تلك الصيغة التي صرح بها لم يجر تقنينها في مؤسسات البلاد إلا بعد الإصلاح الدستوري لعام 2020، الذي ترتب عنه “تصفير” عداد الولايات الرئاسية، ووطد ديكتاتورية بوتين بصورتها الناضجة. ولم يتضح المعنى الدعائي لعبارة بوتين يساوي دوسيا ” بشكل صارخ إلا مع بداية “العملية الخاصة” في أوكرانيا عام 2022. وبحسب تصور الكرملين، فإن حرب بوتينن هي حرب روسيا، وهي بالتبعية حرب ينخرط فيها الشعب الروسي بأكمله، وهي فكرة خيالية لا تقتصر على دعم مصالح مروجي دعاية النظام فحسب، بل سرعان ما تبناها عديد من المسؤولين الغربيين أيضاً. إلا أن الصورة الحقيقية أكثر تعقيداً من ذلك بطبيعة الحال.

واليوم، باتت مسألة الغالبية الموالية لبوتين تعتبر أمراً مسلماً به منذ فترة طويلة، ولم يعد ثمة أحد يتحدث عنها. وبدلاً من ذلك، هناك غالبية مؤيدة للحرب، التي تدعم الحرب جزئياً من خلال تجاهلها في إطار حياتهم اليومية. أما بالنسبة إلى الأقلية المناهضة لبوتين، فقد تحول الكرملين من التعامل باستخفاف مع كل من يتجرأ ويعارض الرئيس، كما جرت عادته منذ أمد طويل، إلى سياسة نشطة تقوم على الاضطهاد والاستنكار.

 

ومع ذلك، لا يزال بوتين يحتاج إلى الانتخابات لإضفاء الشرعية على حكمه الأبدي، وعلى حربه التي لا نهاية لها. ومن هنا سيرشح نفسة  في مارس (آذار) 2024 للرئاسة للمرة الخامسة منذ عام 2000. ونتيجة للإصلاح الدستوري لعام 2020، قد لا تكون هذه المرة هي الأخيرة له أيضاً. فبحسب الدستور المعدل عام 2020، بمقدور بوتين الترشح لسدة الرئاسة مرتين إضافيتين، عامي 2024 و2030، مما يعني أنه يمكن أن يبقى في الحكم حتى عام 2036، وسيكون عندها في الـ83 من عمره. وفي الوقت الراهن، من الواضح أن بوتين مستعد للاستفادة من هذه الفرصة على أكمل وجه ممكن، في الأقل في الانتخابات المقبلة.

لكن في هذه المرة، وفي ضوء الحرب الدائرة في خلفية الأحداث، ثمة قواعد جديدة لهذه اللعبة، ويدركها بوتين والشعب الروسي تمام الإدراك. فمقابل إبقاء معظمهم بعيدين عن خنادق المعركة، ستواصل الغالبية الصامتة من الروس دعمها للحكومة. وستظهر الانتخابات، أو بالأحرى أنشطة التأييد الجماهيرية لبوتين، أن الشعب يجاريه على أقل تقدير. وبذلك أصبحت صناديق الاقتراع أشبه بالعملة: فالمواطنون الروس يعتقدون أنه يمكنهم من خلالها أن يشتروا راحة بالهم نسبياً، حتى ولو لم يكن ثمة ضمانات بأن بوتين سيفي بالتزاماته في هذه الصفقة.

ما عليك إلا التصويت بنعم

وفي ظل الافتقار التام لأي بديل لبوتين، يقترح بعض أنصاره، من أمثال الرئيس الشيشاني والموالي الشرس رمضان قديروف، إلغاء انتخابات عام 2024 تماماً. أفلن يكون من الأسهل التخلي عن الانتخابات لأن البلاد في حالة حرب، وأن الساحة السياسية الروسية على أي حال أخليت من أي منافسين، أو لماذا لا يرفع بوتين لمقام القائد الأعلى أو الزعيم الوطني أو القيصر، وبعدها يجري انتخاب رئيس شكلي؟

لكن بوتين في حاجة حقيقية إلى الانتخابات، في الأقل من الناحية النظرية. فإلى جانب دورها في تجديد شرعيته، ستتيح له الانتخابات الفرصة، من خلال نتائجها الكاسحة المتوقعة، لأن يظهر أن المعارضة تبقى أقلية صغيرة لا وزن لها أمام الإرادة الساحقة للشعب الروسي، فضلاً عن ذلك، سيضفي المواطنون الروس من خلال تصويتهم لبوتين في انتخابات عام 2024 الشرعية على حربه. وحتى لو وضعت المرحلة النشطة من تلك الحرب أوزارها يوماً ما، فستبقى ثمة حاجة إلى استمرارها من خلال المواجهة الدائمة مع الغرب، وكذريعة لأعمال الاضطهاد والقمع والرقابة المتواصلة بلا هوادة في البلاد.

من الضروري لبوتين أن يعزز حبكة روايته في شأن الحرب

ومن هنا، فعلينا أن ننظر إلى تصويت شهر مارس على أنه نوع من التزكية للزعيم القائد بدلاً من كونها انتخابات: فهم ببساطة يصوتون بنعم للخيار الوحيد الحقيقي المتاح أمامهم. ومن الناحية العملية، يعتبر هذا أحد الأشكال الشرعية للتعبير الديمقراطي، بحسب ما نص عليه الدستور، وكرَّسه التاريخ الروسي على ما يبدو (تناقش الكتب الدراسية الجديدة المقررة في المدارس والجامعات مثل هذه التقاليد السياسية الروسية، مثل فيتشي نوفغورود، أو التجمع الشعبي في مدينة نوفغورود، والذي كان يجري اتخاذ القرارات فيه في شأن جميع المسائل من خلال صراخ الحشود وموافقتها وتهليلها). وبعبارة أخرى، في غياب أي نوع من المنافسة السياسية، يمتلك النظام كل ما يلزم ليكسب تزكية جديدة لحكمه، وليس ثمة ما قد يخسره حقيقة من جراء ذلك.

والحق أن حصول بوتين على أرقام مرتفعة أمر مضمون. فالبعض سيصوتون له من منطلق فهمهم المغلوط للشعور بواجبهم المدني، فيما سيجبر البعض الآخر على فعل ذلك في أماكن عملهم: فهذه هي الحالة العامة من جنون الاضطهاد التي تعم روسيا اليوم، إلى درجة أن الناس يقومون أحياناً بالتقاط صور بهواتفهم الذكية لبطاقات اقتراعهم بعد إتمامها ومن ثم يرسلونها إلى رؤسائهم في العمل، وبعد ذلك يحصلون على حقهم في العودة إلى حياتهم الخاصة. وربما سيحصل تزوير لبعض الأصوات، بما فيها ربما تلك التي سيدلى بها عبر أنظمة التصويت الإلكترونية.

ومع ذلك، يبقى البت في شأن المحتوى الذي ينبغي أن تمتلئ به الحملة، مسألة مختلفة. لا شك أنه من الضروري لبوتين أن يعزز حبكة روايته في شأن الحرب. وكما يحب بوتين أن يقول “لم نكن نحن”، فقد تعرضت روسيا لهجوم من قبل الغرب، ورداً على ذلك شرعت في “نضال من أجل التحرر الوطني”، بهدف تحرير روسيا والشعوب الأخرى التي يستعبدها الغرب. وبما أن الروس يجدون أنفسهم في قلعة محاصرة، لا بد لهم من تقديم الدعم الكامل لقائدهم ليصد عنهم كلاً من العدو المتربص بهم على الأبواب، والخونة والعملاء الأجانب في الداخل. وحالياً، بات هذا المنطق يعتبر حقيقة مسلمة لا جدال فيها، ويطرح مقترناً بسلسلة من الحجج الأخرى، منها أن روسيا تقاتل من أجل “عالم متعدد القطبية وأكثر عدالة”، وأن روسيا “دولة حضارية” ذات طابع خاص يبرر الحرب ولماذا يجب ألا تنتهي، وكذلك حكم بوتين نفسه. ولكن، ما العنصر الجديد الذي يمكن إضافته إلى الحملة الانتخابية الراهنة، سوى الإعلان الصوري عن السلام والنصر، بطبيعة الحال؟

الحصاد الجيد دائماً

من الناحية النظرية، لا يعلق الشعب الروسي أهمية كبيرة على الانتخابات. ففي أذهان معظم الناس ليس هناك بديل لبوتين، حتى لو لم يعتقدوا أنه رئيس جيد تحديداً. وعندما يقول الروس “بوتين” فذلك يعني الرئيس، والعكس بالعكس، فقد أصبح بوتين وكأنه ملك من العصور الوسطى ذو شخصيتين، الأولى حقيقية، والثانية رمزية. فهو يعبر عن الـ”نحن” الجماعية للشعب الروسي، والتصويت له كل بضع سنوات أصبح طقساً راسخاً، مثل رفع العلم أو إنشاد السلام الوطني أيام الإثنين في المدارس الثانوية في جميع أنحاء روسيا.

لكن الحرب أضفت على هذه الطقوس بعداً جديداً. فخلال “العملية الخاصة”، نشأ اتفاق غير مكتوب بين الشعب وقائده. ويتمثل جوهر هذه العلاقة الخاصة بأنه ما دامت الدولة تحجم عن جر معظم الناس إلى القتال، فإن المواطنين الروس لن ينازعوا بوتين سلطته. وقد أدت عملية التعبئة الجزئية التي جرت في خريف عام 2022 إلى التشكيك لفترة وجيزة في وعود الدولة، ولكن منذ ذلك الوقت، تمكنت السلطات من حل هذه المسألة إلى حد كبير. فبصورة أساسية، قاموا بتسريح المواطنين الروس نفسياً، من خلال الحفاظ على نمط الحياة الطبيعية السائدة وفرضه. وفي هذا الإطار، ركز بوتين نفسه بشكل شبه كامل على القضايا المحلية، مثل معالجة المشكلات الاقتصادية، ودعم مجالات الذكاء الاصطناعي، وإجراء اللقاءات مع العلماء الشباب والأطفال الموهوبين. ونتيجة لذلك، تحسن المزاج العام للشعب بشكل كبير خلال السنة الثانية من الحرب، على رغم الإشاعات حول احتمالية إجراء عملية تعبئة عسكرية أخرى بعد الانتخابات.

وقد خيمت سحابة داكنة على أجواء الكرملين تمثلت بالاستياء العلني الذي عبرت عنه عائلات الرجال الذين استدعوا للخدمة في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، فهذه الأسر لا تسعى وراء المال، بل يريدون عودة أبنائهم وأزواجهم إليهم، حيث شعروا بالإجحاف نظراً إلى أن المجرمين الحقيقيين والقتلة المتوحشين الذين جندوا من السجون ليقاتلوا في الحرب، لم يكن يتعين عليهم سوى أداء الخدمة لمدة ستة أشهر فقط ليعودا بعدها عودة الأبطال، في حين لم يُعطَ أبناؤهم أي فترة استراحة. لم يكن لدى الحكومة رد مقنع على هذا التحدي: فلطالما اعتاد بوتين محاربة النخبة المثقفة والمعارضة الليبرالية، إلا أنه في هذه الحالة كان يتعامل مع سخط نابع من قاعدته الاجتماعية ذاتها. لم تتحد عائلات هؤلاء الجنود بعد في حركة رسمية أو تتخذ موقفاً صريحاً مناهضاً للحرب، وهي خطوة قد تكون مستحيلة بسبب ارتفاع مستوى القمع، ولكن مع كل يوم يمر تصبح هذه العائلات مسيسة أكثر فأكثر.

ومع ذلك، فبالنسبة لمعظم السكان، يكفي أن تروج الحكومة بانتظام لسلامة الاقتصاد ونمو الدخل في الدولة، وأن مجرد عدم حدوث انهيار اقتصادي واجتماعي في البلاد يعتبر كافياً لإيصال انطباع بأن الأعمال تسير على النحو المعتاد، كما يسلط الكرملين الضوء باستمرار على “نجاحاته” في سياسته الخارجية. وفي هذا العالم المتخيل، تحظى روسيا في مواجهتها للغرب بدعم “الغالبية العالمية” في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. فهذه ليست مجرد دول حليفة، بل بلدان تنظر إلى روسيا باعتبارها منارة تضيء الدرب في الظلام. ويفترض أن يؤدي الخطاب المناهض للغرب وعروض المساعدة الاقتصادية، أو الحبوب كما هي الحال في أفريقيا، تلقائياً إلى عودة الدول التي كانت في السابق تابعة للاتحاد السوفياتي، لتصطف اليوم إلى جانب روسيا.

وفي غضون ذلك، تميل تقارير وسائل الإعلام الروسية الرسمية حول العمليات العسكرية إلى تأكيد النجاحات المتواصلة التي يحققها “رجالنا” في الجبهة. وفي تلك القصص الإخبارية المشرقة، لا ذكر لأي خسائر فادحة، وإنما هي صولات بطولية وانتصارات فحسب. وقد أصبحت هذه الإحاطات الإعلامية أشبه ما تكون بتلك التقارير السوفياتية عن الإنجازات الزراعية: فالمعركة من أجل الحصاد تسير على ما يرام، وليس ثمة مجال لأي مشاعر سوى الشعور بالرضا.

من وجهة نظر غربية، يبدو من غير المحتمل أن يقنع هذا السرد الخيالي أحداً. ولا شك في أن الروس متحسسون بالضرورة من عزلتهم وضائقتهم الاقتصادية المتنامية، ومن التضحيات المتزايدة لشبابهم على الجبهة باستمرار. لكن نظام بوتين ليس مبنياً على تقديم الدعم الفعال. فكل ما يتطلبه الأمر هو اللامبالاة من قبل الغالبية، والتي تجد غالباً أنه من الأسهل قبول صورة العالم كما هي مفروضة عليهم من السلطات العليا. ومن خلال تبني رواية بوتين، يمكنهم المحافظة على شعور بالتفوق المعنوي على الغرب الذي يسعى، كما يقال لهم، لتقطيع أوصال بلدهم، تماماً كما فعل نابليون، وهتلر، والإمبرياليون الأميركيون خلال العقود الماضية.

ومن شهر لآخر، يعلن علماء الاجتماع الروس عن النتائج نفسها على نطاق واسع، فقد فتر الاهتمام بالأحداث في أوكرانيا، ووفقاً لاستطلاعات رأي أجراها مركز “ليفادا” المستقل، أفاد أقل من نصف المشاركين بأنهم يتابعون الحرب من كثب. وفي المتوسط، يبقى دعمهم الجيش مرتفعاً: نحو 75 في المئة من المشاركين قالوا، إنهم يدعمون القوات المسلحة، منهم 45 في المئة عبروا عن “دعمهم القوي”. من ناحية أخرى، تظهر استطلاعات الرأي على نحو ثابت أن ما يربو قليلاً على نصف عدد المشاركين يفضلون البدء بمفاوضات سلام على الاستمرار في الحرب، ولكن بالنظر إلى التضحيات الكبيرة التي قدمتها البلاد في القتال، فإن معظم هؤلاء المؤيدين للتسوية يرغبون في الحصول على غنيمة في المقابل: روسيا يجب أن تحتفظ بالأراضي “الجديدة” التي احتلتها أو “استعادتها” إلى حضن موسكو.

عودة إلى الاتحاد السوفياتي

وبعد إعادة صياغة “العملية الخاصة” في أوكرانيا لتصبح حرباً متعددة الأبعاد ضد الغرب، لم يعد بوتين في عجلة ملحة من أمره للتحدث عن نهاية الأزمة. وبهذا المعنى، لم تعد أهداف بوتين من هذه الحرب تقتصر على استعادة أوكرانيا إلى أحضان روسيا، بل هي تتضمن الآن ما أصبح بمثابة مباراة وجودية جديدة مع الغرب، وتمثل الحرب الأوكرانية فيها مجرد جزء من صراع حضارات تاريخي مرير وطويل. ويرى بوتين نفسه القائد الذي يستكمل المهمة التي بدأها أسلافه التاريخيون، الذين كانوا مضطرين دائماً لمواجهة الاعتداءات الغربية. وفي تفسير بوتين الجديد، فإن الضرر الذي يلحقه النفوذ الغربي والهجمات الغربية هو أكبر حتى من ذلك الذي نجم عن وقوع روسيا تحت نير التتار والمغول، عندما وقع الروس تحت حكمهم على مدى قرنين من الزمان في أعقاب غزو باتو خان حفيد جنكيز خان عام 1237. ونظراً إلى أن الصراع الدائر الآن هو مواجهة مفتوحة، فإن الإطار الزمني لـ”النصر” سيكون بالضرورة ممتداً إلى ما بعد العقد المقبل بفترة طويلة.

تلقى الأفكار المتعلقة بالعظمة التاريخية لروسيا تقبلاً عند المواطنين الروس العاديين. وبحسب البيانات التي أظهرتها استطلاعات الرأي على مدى سنوات، فإن المبعث الرئيس للفخر في أوساط الشعب اليوم هو الماضي المجيد الذي تتمتع به البلاد. ويكن الروس احتراماً خاصاً لتاريخهم الإمبراطوري، وبخاصة لتاريخ الاتحاد السوفياتي، وبدأت تبرز اليوم صورة مثالية للاتحاد السوفياتي باعتباره مملكة تقوم على العدل. وفي الوقت نفسه وبفضل أعمال الطمس التي يمارسها نظام بوتين نفسه، انحسرت أفعال ستالين القمعية في أذهان الناس، اعتبرت في بعض الأحيان ضرورية أو حتى إيجابية. ومن بين أكثر الإنجازات السوفياتية التي يتذكرها الروس اليوم، فإن أعظمها على الإطلاق هو النصر في “الحرب الوطنية العظمى”، وهو الاسم الذي يشير به الروس إلى الحرب العالمية الثانية.

ومن هذا المنطلق، كان بوتين يقارن باستمرار “العملية الخاصة” ضد أوكرانيا بالحرب ضد ألمانيا النازية. إن الجنود والجنرالات المشهورين في الحرب الوطنية العظمى هم الأسلاف المباشرون للمؤسسة العسكرية اليوم، من ثم فمن خلال القتال في حرب بوتين، يستطيع الروس أن يجدوا الخلاص في التضحيات البطولية مرة أخرى. على سبيل المثال، في خطاب ألقاه قبل عرض يوم النصر في التاسع من مايو (أيار) من العام الحالي، أشار بوتين إلى أن الغرب كان يحاول عكس اتجاه النصر التاريخي الذي حققته روسيا. وقال “هدفهم هو الإجهاز على بلدنا وتدميرها، ومحو نتائج الحرب العالمية الثانية”.

بوتين في ذروته

لكن لكي يثبت بوتين هذه النظرة العالمية، يحتاج إلى نموذج اقتصادي قابل للتطبيق لدعم صناعة الأسطورة. وفي السنوات الأخيرة، وبخاصة منذ بداية الحرب، واصل نهجه القائم على عدم الثقة بالعالم الخارجي، والذي غرسه بعناية من خلال رفض ما سماه “الاعتماد” الاقتصادي والتكنولوجي على الغرب. ومن الناحية العملية، كان الكرملين يتخلص من كل شيء غربي، ليس من خلال الاستعاضة عن الاستيراد، وهو أمر مستحيل في الاقتصاد الحديث، بل من خلال الاعتماد الجديد على الصين. وفي الوقت نفسه أصبحت التكنولوجيا أكثر بدائية وأكثر كلفة، مما يضع العبء بطبيعة الحال على عاتق المستهلك النهائي.

وتظل موارد النفط والغاز في روسيا، التي تشكل ضرورة أساسية لدعم النفقات العسكرية غير العادية للبلاد، على نفس القدر من الأهمية كما كانت دائماً. وعلى نحو ما، تستخدم الجوانب الأيديولوجية للتعويض عن النقص في عائدات الطاقة، والتعويض عن الانحدار التدريجي في مستوى جودة الحياة. وبطبيعة الحال، يبذل النظام جهوداً كبيرة للحفاظ على الانطباع بأن الحياة تستمر على النحو المعتاد، وهذا صحيح إلى حد ما: فمن الناحية الرسمية، نما الناتج المحلي الإجمالي للبلاد والدخل الحقيقي للسكان في عام 2023. لكن هذا مرده إلى حد كبير الأموال التي ضختها الدولة في القطاعات التي تخدم الحرب والمدفوعات الاجتماعية للمشاركين فيها. ويأتي هذا النمو على حساب الدولة، ومن غير الواضح إلى متى ستستمر مواردها. ولا تزال أخطار اختلال التوازن المالي قائمة.

إن مزيداً من الإنفاق على الموت، يعني أن ثمة قدراً أقل لإنفاقه على الحياة

تكمن المشكلة الأكبر في الافتقار إلى رؤية اقتصادية للمستقبل. وكما يشير المؤرخ ألكسندر إيتكيند، فإن “الدولة التي تعتمد على الموارد تخشى دائماً نفاد المواد الخام، ولكن التهديد الأكبر على الإطلاق يأتي من التكنولوجيا الجديدة التي تجعل هذه المواد غير ضرورية”. ولم يؤمن بوتين قط بالتحول في الطاقة أو الاقتصاد الأخضر، ولكن من خلال إصراره على الحفاظ على البنية التكنولوجية الحالية ونموذج الدولة النفطية في روسيا، عمل نظامه على إعاقة التحديث بالمعنى التكنولوجي والسياسي. ونتيجة لذلك، لن يستبدل اقتصاد النفط والغاز بنموذج أكثر استدامة. ومن يذكر أن بعض دول الشرق التي تستهلك الآن المواد الخام الروسية ربما تعمل على تغيير مزيج الطاقة لديها في المستقبل: بمرور الوقت، على سبيل المثال، قد يكون لدى الصين طلب أقل على الطاقة الروسية. لكن استبداد بوتين لا يهتم بأجيال المستقبل، ناهيك بالبيئة.

وإلى جانب اعتماده على الوقود الأحفوري غير المتجدد، يميل الكرملين إلى التعامل مع رأس المال البشري باعتباره سلعة أخرى مستهلكة. لكن هذا لا يجعل سلسلة الإمداد المرتبطة بالموارد البشرية أرخص. بل على العكس، فقد أصبحت هذه السلسلة أكثر كلفة: فالجنود المحترفون، والمرتزقة، والمتطوعون، وأفراد عائلات القتلى والجرحى، والعمال الذين يديرون المجمع الصناعي العسكري في روسيا (الذي يوجد حالياً نقص خطر فيه) يجب أن يحصلوا جميعاً على أجورهم. ومن ثم، كان على الحكومة أن توفق أوضاعها مع هذا النمو الحتمي في الأجور والمزايا الاجتماعية. ومن هنا فإن معدلات دخل الناس تنمو ليس بسبب التنمية الاقتصادية أو التقدم في نوعية القوى العاملة، ولكن ببساطة حتى تتمكن الحكومة من مواصلة الأعمال القتالية وتغذية الإنتاج المستمر للأسلحة الفتاكة.

في الوقت الحالي، لا تزال موازنة الدولة متوازنة، لكن انضباط الموازنة في خطر دائم بسبب الأولويات التي اختارتها الحكومة. ومن خلال دفع مزيد من المال للدفاع والأمن، فإن روسيا لديها موارد أقل للناس وصحتهم وتنميتهم. وفي نموذج بوتين الاقتصادي، فإن مزيداً من الإنفاق على الموت يعني أن ثمة قدراً أقل لإنفاقه على الحياة.

بحيرة البجع

إذاً، كيف ستبدو حملة بوتين الانتخابية؟ نظراً إلى الوضع الحالي، لا يستطيع بوتين إلا أن يقدم للجمهور نموذج البقاء نفسه الذي أصبح معياراً منذ بدء “العملية الخاصة”: العيش على خلفية الحرب من دون الالتفات إليها وانتظار “النصر” بأي شكل يختاره الرئيس يوماً ما. ومرة أخرى، من غير المرجح أن يحدد هذا الاختيار بوضوح خلال حملة الانتخابات. لقد أصبحت الحرب ذاتها أسلوباً لوجود نظام بوتين، وليس هناك من الأسباب ما يجعلنا نتوقع أنها ستنتهي في أي وقت قريب، لأن ذلك قد يؤدي إلى تقويض الحاجة الملحة إلى دعمه.

على أي حال، كانت شعبية بوتين خلال فترات السلام تشهد ركوداً في كثير من الأحيان، في حين ارتفعت إلى عنان السماء خلال لحظات الهستيريا العسكرية “الوطنية” مثل الحرب الجورجية عام 2008 وضم شبه جزيرة القرم. ولم تكن “العملية الخاصة” استثناء. علاوة على ذلك، في الوقت الحالي، لم يترجم الإرهاق من الحرب إلى استياء خطر أو خفض في دعم النظام. ووفقاً لمركز ليفادا، ظل الدعم الشعبي لبوتين، وكذلك للحرب والجيش، مستقراً على نطاق واسع، حيث حافظ بوتين على نسبة تأييد تبلغ نحو 80 في المئة. من الناحية النظرية إذا فإن لامبالاة الغالبية المؤيدة للحرب تشير إلى أن بوتين قادر على مواصلة الحرب إلى أجل غير مسمى.

ويتلخص الخيار الآخر أمام الكرملين في تصعيد الأعمال القتالية، بما في ذلك التعبئة الجديدة، سواء كانت جزئية أو عامة، إلى جانب مزيد من الابتعاد عن الغرب ومزيد من القمع في الداخل، ولكن مثل هذه التغييرات ربما تهز أركان الكرملين، الذي قد يصطدم عند مرحلة ما بجبل من القلق العام الشديد والاقتصاد المتدهور. إن المشكلات الأساسية التي تواجهها روسيا لن تنتهي إلى أي مكان، ولم تتمكن من إبطائها إلا بفضل الإجراءات العقلانية نسبياً التي اتخذها مديرو الاقتصاد الحكومي. وبناء على ذلك، يبدو الحفاظ على الوضع الراهن هو المسار الأكثر ترجيحاً للمضي قدماً.

خلال فترات السلام، كانت شعبية بوتين تشهد ركوداً

عندما يتوجه الروس إلى صناديق الاقتراع في شهر مارس، يستطيع بوتين أن يعتمد على نسبة المشاركة المرتفعة للناخبين والدعم السلبي المستمر للحرب. معظمهم لديهم توقعات منخفضة جداً: لقد عاشوا لفترة طويلة على مبدأ “الشيء الأساس هو ألا تسوء الأمور”، ولكن التهليل الجديد للنظام الذي ستجلبه الانتخابات بلا شك لن يوفر بالضرورة تفويضاً لاتخاذ خطوات دراماتيكية حقيقية مثل الإغلاق الكامل لحدود روسيا أو استخدام الأسلحة النووية. وكما يتعين على الكرملين أن يفهم، فإن النتيجة لن تكون بمثابة تفويض لإجراء تغييرات جذرية جديدة بقدر ما ستكون إشارة إلى أن روسيا قادرة على الاستمرار كما كانت من قبل.

إلى متى يمكن لدولة أن تظل في هذه الحالة من الجمود السلبي وغير المنتج؟ من الناحية النظرية، يستطيع بوتين أن يجني المزايا من خلال مواصلة الحرب، على أن يحافظ في الوقت نفسه على هدوء السكان، من ثم يتفوق على الغرب بمصالحه المتضائلة المفترضة، ولكن هناك عدة أسباب للتشكيك في هذا الافتراض: أولاً، ليست أوكرانيا والغرب وحدهما من يستنزف موارده، بل روسيا أيضاً تستنزف مواردها بشكل كبير. ثانياً، المفاجآت ممكنة، مثل موجة السخط المتزايدة بين عائلات الجنود الروس الذين استدعوا للخدمة في التعبئة الجزئية. وحتى لو لم تسفر هذه الظاهرة عن رد فعل سياسي أوسع نطاقاً، فقد أظهرت بالفعل أن البجع الأسود [أحداث غير متوقعة] ذا الأحجام المختلفة من الممكن أن يأتي من أماكن غير متوقعة وفي أوقات غير متوقعة.

ولكن أين هي الخطوط الحمر التي توضح إلى أي مدى يمكن استنزاف الموارد واختبار صبر مختلف قطاعات السكان من دون التسبب في انهيار أكبر، هل هذه الحدود موجودة أصلاً في روسيا؟ حتى الآن، يشير كل شيء -مع بعض الاستثناءات الطفيفة- إلى حقيقة مفادها أنها غير موجودة. علاوة على ذلك، وبغض النظر عن مدى إحكام النظام قبضته، فإن تغيير القيادة لا يشكل أولوية بالنسبة إلى الشعب الروسي: بل على العكس، تظهر استطلاعات الرأي والمجموعات النقاشية أن عديداً من الناس يخشون التغيير على مستوى القمة.

ومع ذلك، فإن الروس ليسوا على استعداد للموت من أجل بوتين. وفي عامي 2018 و2020، انخفضت شعبية بوتين بسبب قرار غير شعبي بزيادة سن التقاعد، ثم بسبب تأثيرات الجائحة، ومن المحتمل أن تتلقى قاعدة دعمه ضربات أخرى في الأشهر المقبلة. وفي الواقع، في مزاج عامة الناس والنخب، هناك توقعات غير ملموسة ولكن واضحة المعالم لمثل هذه الأحداث، ولكن بالنسبة لمعظم الناس، فإن ما يتوقون إليه بالدرجة الأولى هو أمر أكثر أساسية. إنهم يرغبون في إنهاء “كل هذا”، أي التخلص من الحرب في أسرع وقت ممكن والبدء في العيش بشكل أفضل وأكثر أماناً وسلاماً. لكن من غير المرجح أن يحدث هذا من دون تغيير النظام.

*أندريه كوليسنيكوف هو باحث بارز في “معهد كارنيغي” للأبحاث الروسية والأورو-آسيوية

مترجم عن فورين أفيرز 1 ديسمبر 2023