قرار رفع العقوبات يعيد البسمة والتفاؤل لتجار سوق الحميدية
على مدى 14 عامًا، ظل تجار سوق الحميدية والأسواق المتفرعة عنه ينهضون صباحًا، بحكم العادة، متوجهين إلى حوانيتهم بخطوات متثاقلة، يتأملون عددًا قليلاً من الزوار الذين ما زالوا يرتادون السوق.
منذ سنوات، لم يكن المشهد كما هو اليوم؛ فقد كانت الحركة نشطة، والتجار يبيعون البضائع المستوردة والمصنعة محليًا، والمقاهي تعجّ بالحديث عن الفرص التجارية الجديدة. أما الآن، فيجلس كلٌّ منهم في زاويته، يتابع الأخبار عبر هاتفه المحمول، منتظرًا بصيص أمل يعيد للسوق روحه القديمة.
سوق الحميدية، الذي تأسس في عهد السلطان العثماني عبدالحميد الأول عام 1780 وسُمّي باسمه، ليس فقط أشهر أسواق دمشق، بل أحد أهم المعالم التجارية والتاريخية في الشرق الأوسط. يمتد السوق على مسافة 600 متر، ويغطيه سقف معدني مثقوب يسمح لأشعة الشمس بالتسلل عبره، ما يمنحه طابعًا خاصًا.
يُعتبر السوق شريانًا اقتصاديًا لدمشق، حيث يضم مئات المحلات التجارية التي تبيع مختلف السلع، من الأقمشة الحريرية والقطنية إلى الذهب والمجوهرات، بالإضافة إلى التحف والهدايا التقليدية. كما يُعدّ وجهة رئيسية للتجار المحليين والدوليين، حيث تُصدّر العديد من المنتجات إلى الأسواق العربية والعالمية.
يتفرّع عن سوق الحميدية العديد من الأسواق المتخصصة، مثل سوق “البزورية” (للأعشاب والتوابل)، وسوق الصاغة (للذهب والمجوهرات)، وسوق الحرير (للأقمشة الفاخرة). كما يُعدّ ملتقى للزوار الباحثين عن الصناعات التراثية السورية، مثل المصنوعات النحاسية، الأرابيسك، والمطرزات اليدوية، ما يجعله أول مول تجاري متكامل في العالم.
ولن نبالغ إذا قلنا إن السوق أهم جامعة حية يمكن للشباب أن يتعلموا فيها أصول التجارة والشطارة، وجعل العالم كله يعترف بمهارة تجار دمشق. الهواتف، التي صمتت عن تقديم خبر مشجع على مدى الأعوام الماضية، قفز على شاشتها خبرٌ أعاد البسمة والتفاؤل إلى الوجوه العابسة لتجار السوق. أخيرًا، هناك خبرٌ مفاده أن القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا قد انتقل إلى حيز التفعيل.
◙ رفع العقوبات سيفتح الباب أمام عودة سوريا إلى النظام المالي العالمي، ما يسمح للحكومة بالوصول إلى احتياطياتها المجمدة، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية،
وزارة الخزانة الأميركية أصدرت ترخيصًا عامًا يوفر “تخفيفًا فوريًا” من العقوبات المفروضة على سوريا. وأشارت الوزارة، في بيان عبر منصة إكس، إلى أن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لها أصدر، اليوم (الجمعة)، الترخيص العام السوري رقم 25، الذي يوفر تخفيفًا فوريًا للعقوبات المفروضة على سوريا.
الترخيص يسمح بالمعاملات المحظورة بموجب لوائح العقوبات السورية، وهو ما يعني من الناحية العملية رفع العقوبات عن سوريا، وإفساح الطريق لإطلاق استثمارات جديدة، وتنشيط دور القطاع الخاص الأميركي في سوريا، بما ينسجم مع إستراتيجية “أميركا أولًا” التي يتبناها الرئيس ترامب.
هذه الخطوة، التي تُعد جزءًا من مسار أوسع تتبعه الحكومة الأميركية لإزالة الهيكل الكامل لنظام العقوبات، أثارت جدلًا واسعًا بشأن دوافعها وتداعياتها. وفي ظل التحولات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة، وبينما يجد البعض في هذا القرار فرصة لتعافي سوريا اقتصاديًا، يرى آخرون أنه مجرد تحرك تكتيكي يخدم مصالح سياسية أكبر.
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية قاسية، شملت تجميد الأصول، منع المعاملات المصرفية، حظر استيراد النفط، وفرض قيود على الشركات الدولية.
رفع العقوبات سيفتح الباب أمام عودة سوريا إلى النظام المالي العالمي، ما يسمح للحكومة بالوصول إلى احتياطياتها المجمدة، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية، ورفع القيود على المعاملات التجارية. كما أنه يتيح إعادة تشغيل مشاريع البنية التحتية المتوقفة، وهو ما تحتاجه البلاد بشدة بعد سنوات من الدمار.
هذا لا يعني حتما نهاية المتاعب، التحدي الأكبر يكمن في مدى قدرة سوريا على إصلاح بيئتها الاستثمارية، وطمأنة الشركات الدولية بشأن استقرار الأوضاع السياسية والأمنية. فدون إصلاحات داخلية، قد تبقى المكاسب الاقتصادية محدودة وغير مستدامة.
لا يمكن النظر إلى قرار رفع العقوبات بمعزل عن التحركات الإقليمية التي سبقته، فقد لعبت السعودية وقطر وتركيا دورًا بارزًا في الوساطة لإعادة دمج سوريا في المشهد الإقليمي، مدفوعة بمصالح اقتصادية وأمنية.
لا شك أن رفع العقوبات يمثل فرصة اقتصادية هامة لسوريا، لكنه في الوقت ذاته يخضع لحسابات سياسية. السعودية، التي أعادت مؤخرًا العلاقات الدبلوماسية مع دمشق، تسعى إلى ضمان استقرار المنطقة لتسهيل مشاريع اقتصادية ضخمة مرتبطة بمبادرة “رؤية 2030”.
أما قطر، التي كانت من أكثر الدول دعمًا للمعارضة السورية، فقد بدأت تتّجه نحو سياسة أكثر براغماتية لإعادة ترتيب أولوياتها الإقليمية. تركيا، من جهتها، ترى في تحسن العلاقات مع سوريا فرصة لحل أزمة اللاجئين، وفتح قنوات اقتصادية جديدة، بالإضافة إلى تعزيز نفوذها في شمال سوريا.
◙ السؤال المطروح: هل ستكون هذه بداية جديدة لسوريا، أم مجرد خطوة تكتيكية في لعبة السياسة الدولية؟ الكرة الآن في ملعب الحكومة السورية.
الولايات المتحدة وحلفاؤها يريدون تحقيق مكاسب إستراتيجية من هذا القرار، دون تقديم تنازلات كبيرة لسوريا أو السماح لها بالعودة الكاملة إلى الساحة الدولية دون شروط. وهناك من يرى أن رفع العقوبات المشروط قد يكون أداة ضغط أكثر من كونه خطوة نحو تطبيع كامل للعلاقات. لكن السوريون الذين يحلمون بوضع حد لعقود من الظلم والدكتاتورية يميلون إلى تصديق ترامب، الذي تحول إلى بطل منقذ بالنسبة إليهم، يشاركونه حلم تحول المنطقة إلى ريفييرا جديدة.
ويدور الحديث، خاصة بين تجار سوق الحميدية، عن مشروعٍ يعيد لدمشق مكانتها التي فقدتها منذ انهيار الدولة الأموية عام 750 م. وتزعم الشائعات أن شركة “نيكسوس العالمية” وقّعت عقدًا لإنشاء برج “الشام 1” في دمشق، والذي سيكون أطول ناطحة سحاب في العالم، بارتفاع 1050 مترًا، متجاوزًا برج خليفة، وبتكلفة تبلغ 8.5 مليار دولار، بتمويل من مستثمرين سوريين وعرب وأجانب.
حتى الآن، لا يوجد أيّ بيان رسمي يؤكد صحة هذه الشائعة، لكن هناك خبر مؤكّد، وإن كان أقل طموحًا، أعلنته مجموعة “تايغرز” العقارية، التي تعتزم إطلاق مشروع برج ترامب في دمشق، وفقًا لصحيفة “الغارديان” التي ذكرت أن المبنى سيكون مؤلفا من 45 طابقا بتكلفة محتملة تصل إلى 200 مليون دولار. وأن مشروع البرج سيطلق كرمز للسلام ورسالة بأن سوريا تستحق مستقبلا أفضل.
في شوارع دمشق، يتساءل السوريون: هل يعني هذا تحسنًا في الاقتصاد؟ هل ستعود البنوك للعمل كما كانت؟ هل ستصل الاستثمارات الأجنبية من جديد؟ سواء بني برج ترامب أو برج الشام أو بني البرجان معا، لن يكون رفع العقوبات حلًا سحريًا. النجاح في استغلال هذه الفرصة يعتمد على قدرة سوريا على إدارة مرحلة ما بعد العقوبات بذكاء، والقيام بإصلاحات حقيقية، وإعادة ثقة المستثمرين والمجتمع الدولي.
في النهاية، سيظل السؤال مطروحًا: هل ستكون هذه بداية جديدة لسوريا، أم مجرد خطوة تكتيكية في لعبة السياسة الدولية؟ الكرة الآن في ملعب الحكومة السورية. إذا أرادت الاستفادة من هذه الفرصة، فعليها تنفيذ “إصلاحات حقيقية.”