هل نُفاجأ إذا كنا لا نزال نعيش (أو نعاني) ظواهر اعتبرنا أن العالم “العشريني”، تجاوزها، بعدما أدت إلى حروب ومعارك وممارسات، وراح ضحيتها ملايين الناس في حروبهم، منذ فترات قديمة من التاريخ… وحتى اليوم؟
ولعل أبرز هذه الظواهر “العنصرية”، (أو العرقية)، بأنواعها الشتى، الدينية والمذهبية، والثقافية، والشعبية، والأيديولوجية. ننظر حولنا اليوم ويا للعجب العجاب، فنجد أن هذا “الوباء”، لم تُشفَ منه كثير من البلدان حتى تلك التي عُرفت بإنجازاتها في الديمقراطية والفلسفة، والآداب والفنون، والتقدم، والثورية (المادية التاريخية)… ليس في ما يُسمى العالم الثالث، بل في العالم الذي صاغ مدونة حقوق الإنسان، والمساواة بين البشر، والدفاع عن حقوق المرأة، واختيار الحرية كقاعدة للانتماءات البديلة عن الاستعمار، والوصايات، والاحتلالات… كأنما العالم اليوم- أو أجزاء منه كثيرة- انقلب على إنجازاته التي خولته بأن يكون في صدارة الحقوق الإنسانية والمدنية.
ولننظر حولنا أيضا، نحن العرب، وامتدادا إلى العالم لا سيما أوروبا، وأميركا، والشرق والغرب، فنجد أن فرنسا التي ساعدت الأميركيين على التخلص من الاستعمار البريطاني، وأعلنت في ثورتها ما يفيد تجاوز كل الأوبئة، كالديكتاتورية والفاشية والنازية العنصرية، ها هي اليوم تُنتج ببعض فلاسفتها، (أو الفلاسفة الجدد)، وكتّابها وعلى رأسهم الروائي الكبير هوليبك، وحزب “التجمع الوطني” الذي ترأسه مارين لوبان، ثقافة الانحياز ضد الأجانب والأقليات والإسلام، وحتى ضد أوروبا التي لا تعترف بها. واللافت أن فرنسا لم يعد موجودا فيها ما كان يُسمى يسارا أو يمينا، بل ينهض عندها بقوة أنها باتت من دون يسارٍ أو يمين معتدل… وتتحكم فيها أنواع من العرقية بأشرس صورها….
وكذلك الولايات المتحدة، التي لم تُشفَ بعد من العرقية اللونية (أبيض وأسود)، وما زلنا نتذكر تلك الصورة التي نُشرت في وسائل الإعلام العالمية لشرطي أميركي يدوس بحذائه عنق رجل أسود ويضغط بكل قوته أمام الملأ علي زلعومه، حتى مات خنقا، ونشكر الله أن هذا العنصري، حوكم وسُجن.
وهل تفارقنا المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية، وصراعها مع المحتل الإسرائيلي، منذ عام 1948 وحتى اليوم، في غزة والضفة وفي أماكن أخرى، حيث يمارس هؤلاء أمام العالم المتقدم والمتراجع، أبشع جرائم الإبادة العنصرية، وما يُريحنا موقف الدول العربية المساند لفلسطين والفلسطينيين والقدس…
نعم، إن ما ذكرنا من حالات هي العرقية بحذافيرها، ولا ننسى لبنان، الذي ما زال يعاني منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم من طغيان المذهبية بين أحزاب طوائفه، والذي شهدنا بين الأربعينات والسبعينات انفراجا في انتماءات الكثيرين من اللبنانيين ببناء دولة ديمقراطية مدنية، ومحاولة الوصول إلى درجة من المساواة بين الرجل والمرأة، لكن هذه اليوتوبيا التي عشناها في تلك المرحلة انخسفت بحروب 1975.
ولا ينسى التاريخ نشوب حرب عنصرية بين البروتستانت والكاثوليك في بارتلمي في القرن التاسع عشر حيث أُزهقت أرواح عشرات الألوف وراح الطرفان يحرقان كنائس بعضهما بعضا ومقراتهما، ونتج عن ذلك تهجير البروتستانت إلى بريطانيا.
لكن ما العِرقية (العنصرية) بأشكالها وطبقاتها ومظاهرها؟ وما تحديداتها (هل هناك تحديد متكامل ووافٍ)؟
من الصعب صياغة مثل هذا التعريف لتشابك كثير من القضايا والحالات، بتفرعاتها وتراكماتها. لكن نتوقف عند بعض هذه التحديدات التي اجتمع إليها بعض المفكرين والكتاب، والذين رأوا أن العنصرية هي فكر جاهز على علاقة بالجذور الإثنية (العنصرية) المرتبطة بعمل عدائي من مجموعة عناصر فيزيائية أو فكرية كجماعات خاصة ترى أن هذه الصفات تتوارث من جيل إلى جيل آخر. فالجماعات الإثنية تؤمن بأنها أرقى من الجماعات الأخرى مما يسمح لها بممارسة أشكال التعالي، وحتى الاحتقار لهذه الجماعات.
العنصرية الأيديولوجية مؤسسة على الهُوية، التي تبدي احتقارا للأشكال الثقافية الخاصة، لكن العنصرية الاحتفالية تعبر عن ذاتها بإبادة الجماعات العرقية
لكن مفهوم “العرقية” غير ثابت وله تاريخيته؛ فهناك من يرى أنه ظهر في القرون الوسطى (أو قبلها) للإشارة إلى الطبقات النبيلة في شبه الجزيرة الإيطالية وفرنسا، أو حتى إلى جماعات يهودية. إن الجماعات الإسلامية واليهودية التي اعتنقت بالقوة المذاهب الكاثوليكية، ثم طُبقت على العبيد الأفارقة، وفي القرن الثامن عشر شملت الأمم التي يختلف دمها وجذورها بحسب أمكنتها، ثم في القرن التاسع عشر على الأمم المفترض أنها مؤسسة من ذوي الدم المشترك… نرى أن انطلاقاتها العرقية جاءت نتيجة الانتشار الأوروبي وعلاقته بالشعوب الأخرى. ويمكن القول في هذا الإطار إن العرقية بدأت مع الحملات الصليبية الأولى لانتشار المسيحية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، بذريعة إنقاذ المقامات الدينية المسيحية… ولكن يمكن القول إن العنصرية ليست شعورا مشتركا عالميا، بل هي خليط من الأفكار الجاهزة تتضمن الإرث الإثني في ظروف متأزمة، لكنّ هناك فارقا بين فكر جاهز إثني وفكر جاهز عرقي. فالإثنية طبيعية لكن التفاخر بالانتماء إليها لا يمنع من حالات استيعاب أخرى أو لقاءات معينة.
لكن يتساءل كثيرون من المهتمين بهذه الظاهرة: هل بدأت العرقية مع نظريات العرقيات في القرنين الثامن والتاسع عشر؟ إنه مفهوم شائع عند كثير من الاختصاصيين، نرى فيه هذه الأزمات العرقية ونظرياتها، مرتبطة بالعرقية وليس بالانقسامات الطبقية. فمفاهيم الدم المتوارثة لعبت دورا أساسيا في الأشكال الجماعية الحديثة وكانت جزءا من الأزمات الدينية التقليدية.
البربري مثلا بالنسبة إلى الإغريق هو الذي لا يجيد التكلم باليونانية، فعندما يتعلم شخص اللغة من الطبيعي أن ينخرط في المجتمع اليوناني.
من أين جاءت هذه الأفكار الجاهزة؟ نقرأ في مراجع عديدة أن التصنيفات بحسب القارات تأثرت عميقا بأدب الأسفار. ففكرة الرجل الأبيض أصلها قوقازي استُخلصت من حكاية المسافرين الفرنسيين إلى آسيا في القرن السابع عشر وخصوصا الأسفار نحو إيران، لكن وقبل تحديد مفهوم مقنع للعرقية (أو العنصرية) علينا أن نعتمد عدة تمييزات أساسية، تتوزع في البداية على عدة أبعاد: المواقف، الآراء، الأفكار الجاهزة، الحالات النفسية، الممارسات (السلوكيات)، الأفعال، البنى الأيديولوجية، الأساطير الحديثة. وهي تعبر عن نفسها في ثلاثة مجالات ما يوفر لها وحدة موضوعية (العنصرية الأيديولوجية).
يقول الباحث بيار أندره تاكييف: “إن الأعمال الكثيرة أكدت أن لا علاقة سببية ذات أثر بين العنصرية الجاهزة (دائرة الآراء والمواقع الإيمانية)، والإدانة والاضطهاد وعنصرية الإبادة”.
ويجب التمييز بين العنصرية البيولوجية والعنصرية الثقافية”. فالعنصرية البيولوجية تقوم على لون البشرة والقامة وتشكيل الجمجمة… أما العنصرية الثقافية فتؤسس شروحاتها من مجرى التاريخ أو طبيعة العمل الاجتماعي، بملامحه الخاصة (اللغة، الدين)، وحدودها مع الإثنية غير محددة. وهي تُنشط أنواعا متميزة في العرق الأبيض والآريين والغربيين.
ويجب التمييز بين عنصرية الاستغلال، (العنصرية الكولونيالية الإمبريالية، وعنصرية الإبادة).
العنصرية الأيديولوجية مؤسسة على الهُوية، التي تبدي احتقارا للأشكال الثقافية الخاصة، لكن العنصرية الاحتفالية تعبر عن ذاتها بإبادة الجماعات العرقية.
منذ إعلان حقوق الإنسان الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1948، يمكن القول إن العنصرية توقفت نسبيا مدعومة من المؤسسات السياسية. ولكن نتساءل هنا: هل ساعدت الهجرات الحديثة على إنهاء العنصرية؟
كل شكل من أشكال العنصرية يتأرجح بين سبيلين واحد روحي، ثقافوي، وآخر مادي بيولوجي… وينمو أحيانا كثيرة مع الأفكار القومية (وهي مختلفة عن الانتماءات الوطنية، القائمة على المساواة والحرية والمواطنية، لكنّ هناك تقاطعا بين القومية الوطنية، والقوميات الأيديولوجية الشمولية التي تتخطى حدود البلدان إلى يوتوبيات الوحدة العروبية مثلا، أو الدينية، التي تكتسب ملامح الديكتاتورية التي تصنف الناس بحسب مواقعهم، وتلامس أحيانا العنصرية السياسية بأدلجتها متسمة بالعنف والكراهية والنبذ والتهجير والقمع، من هنا تبدو هذه الظواهر المُعَممة رديفة لعنصرية القارات والمجاميع، أي يمتد التصنيف إلى القارات نفسها، لكن بشروط مختلفة عن المدونات الخاصة قومية كانت أم أيديولوجية.
وهذا ينطبق أحيانا وإن بمواصفات محددة على أشكال الاستعمار، وهنا تحديدا تلتئم المفاهيم الشتى تحت الوصايات، أو تتفرق علاقاتها العنيفة التي قد تدرك العنصرية. وعلى هذه الأسس وغيرها تصبح القومية مرحلة أساسية في تاريخ العنصرية: وهذا ثبتت ملامحه في الأطر الفكرية والسياسية العربية، لا سيما عندما تختلط هذه البنى بطريقه تعسفية، فتنفتح على التطرف الإثني أو القومي أو السياسي.
ونضيف في هذا الإطار أن صعود القومية في القارة الإنكليزية العجوز بين العمل السياسي، ينفتح على جامعة الإثنيات المختلفة مما أدى إلى أشكال متطرفة من القومية التي جردت عدة أقليات مما يسمى الانتمائية الوطنية في أوروبا الشرقية، وهو ما أدى إلى ارتكاب مجازر أزهقت أرواح ألوف الأشخاص.
لكن ما حالة العرقية اليوم في المجتمعات المتنوعة؟ منذ إعلان حقوق الإنسان الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1948، وكذلك الحقوق المدنية في الولايات المتحدة مما جعل اتجاه مناهضة العرقية إلى حد كبير مهيمنا، يمكن القول إن العنصرية توقفت نسبيا إلى حد معتدل، مدعومة من المؤسسات السياسية، ولكن نتساءل هنا: هل ساعدت الهجرات الحديثة على إنهاء العنصرية؟
لا نظن أن هناك قاعدة معينة لكن في معظم الحالات أمنت هذه الهجرات أشكال التواصل الإنساني وتجاوز الأفكار الجاهزة خصوصا للوافدين. لكن الأحزاب التي تبدو عرقية في أوروبا تلقى اليوم نجاحا أكثر فأكثر، خصوصا في الأزمات الاقتصادية والسياسية.
من هنا نقول إن التاريخ قلما كان خيطيا، وما زلنا نعيش مرحلة انغلاق بارز في العالم مع تصاعد العولمة التي تفرض معطيات وممارسات مختلفة للتهميش والتمييز، حتى في مجال العنصرة والعرقنة.