الروس امتصوا الإهانة التي وجهها ترامب إلى بوتين بتبريرها “نفسياً”، فلماذا يفتحون حرباً بالألفاظ مع الرئيس الأميركي بينما هم فعلياً يكيلون له الإهانات تباعاً باستخفافهم بالعملية التفاوضية؟
هذا النعت “القاسي” جاء بعد يوم أوكراني محموم أمطرت فيه القوات الروسية أرجاء البلد كافة بقصف عنيف من المسيّرات والصواريخ.
لكن الروس لم يفاجئوا ترامب بالتصعيد. هم منذ عودته إلى البيت الأبيض بوعد تحقيق السلام بين البلدين في 24 ساعة يراوغون مبعوثيه، ويسحبون من الأميركيين التزامات مسبقة على حساب أوكرانيا، ومع ذلك يرفضون اتفاقات وقف إطلاق النار، وتطول لائحة مطالبهم.
الروس امتصوا الإهانة التي وجهها ترامب إلى بوتين بتبريرها “نفسياً”، إذ إن الجميع تحت ضغط “العبء العاطفي” الذي تسبّبه المفاوضات. لماذا يفتحون حرباً بالألفاظ مع ترامب، بينما هم فعلياً يكيلون له الإهانات تباعاً باستخفافهم بالعملية التفاوضية، وبالنكث بالوعود بعدم تصعيد الحرب وحتى بإعطاء ترامب أملاً بلقاء مع بوتين في إسطنبول، كان الأول متحمساً لحدوثه ثم لم يحدث.
ومع تعثّر المحادثات التي يقودها الأميركيون بين الطرفين المتحاربين، بدأ ترامب يسرّب تململه من هذه الحرب التي ما كانت لتقع لولا رئاسة جو بايدن. لكنه، مع ذلك، مصرّ على أن اللقاء شخصياً مع بوتين سيكون كفيلاً بوضع حدّ للحرب. لقاء لم يعوّض عنه الاتصال الهاتفي الأخير بينهما، والذي استمرّ لساعات، خرج بعدها الرئيس الأميركي بأن الأمور أكثر تعقيداً ممّا كان يظنّ.
لكن التعقيدات نفسها صناعة ترامبية في الأساس. فهو من البداية لوّح بالجزرة للروس، وبالعصا للأوكرانيين، ومن خلفهم الاتحاد الأوروبي. إدارته قالت إن أوكرانيا لن تنضم للناتو، وإن عليها أن تتخلّى عن حلم استعادة أراضيها المحتلة. وفي المقابل، وبعد محادثات مع الروس في السعودية، خرج هؤلاء بما وصف حينها أنه أجمل من أن يكون حقيقة، في إعادة العلاقات مع أميركا إلى طبيعتها ورفع العقوبات والمفاوضات مع الأوكرانيين من دون شروط مسبقة.
كما أن ترامب لم يتردد يوماً في التعبير عن سخطه من التكلفة المادية لدعم أوكرانيا عسكرياً. ومنذ عودته إلى الرئاسة لم تتلقَ كييف أي مساعدة عسكرية عبر إدارته، كما أنه لم يفرج بعد عن المساعدات التي أقرها الكونغرس بقيمة 3.85 مليارات دولار.
ومع أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي قدّم ما يشبه الاعتذار لأميركا عن الإهانات بالجملة التي تعرّض لها في المكتب البيضاوي، وانتهت بطرده من البيت الأبيض، ثم وافق على اتفاقية المعادن، إلا أن ترامب لم يرضَ عنه بعد. وعدم الرضا الترامبي ينعكس ضعفاً عسكرياً جلياً للقوات الأوكرانية، التي اعتمدت في صمودها ضد روسيا على السلاح والتكنولوجيا الأميركيين؛ وإذا انتهى مخزونها من الصواريخ الاعتراضية، فهي عرضة لمزيد من الصواريخ البالستية الروسية والمسيّرات في ترسانة آخذة بالتطور والتحديث.
وبينما يكتشف الرئيس الأميركي فجأة أن هذه ليست “حرب ترامب”، بمعنى أنها في نهاية المطاف تجري بين بلدين بعيدين عن حدوده، ولا تأثير مباشراً على مشروعه بإدخال أميركا في “العصر الذهبي” الموعود، فإن بوتين لديه متّسع من الوقت للدفع بالأمور إلى الحافّة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب على الأرض، وتالياً على أيّ طاولة مفاوضات.
إلى حينه، يُمكن للروس تحمّل المزيد من العقوبات التي ليس واضحاً ما إذا كان ترامب سيلجأ إليها أصلاً، كما ابتلاع المزيد من غضب الرئيس على وسائل التواصل الاجتماعي، وتطييب خاطره بالتضامن مع انفعاله العاطفي، لأن “الجميع” تحت وطأة هذا الضغط، مع أن لا شيء يوحي بأنه يمكن الاقتناع بأن الرجل ذا الوجه الفولاذي، الذي يقطن في الكرملين، يمكن أن يتأثر بأي ضغط، مهما بلغت قوّته العاطفية.
العلامات الدالة