”((عندما تسلمت حكومة أحمد الشرع السلطة طُلب من السوريين أن يصبروا. فبحسب القول(نحن نرث دولة مدمّرة، مفككة، مثقلة بإرث نظام أضعف مؤسساتها وأفرغها من معناها). وبدل الدخول في المعارك السياسية أو فتح ملفات القضاء والأمن، اختارت الحكومة أن تركز على الاقتصاد كأولوية مطلقة، باعتباره الأساس لإعادة تثبيت الدولة واستعادة الثقة.
الخطاب الذي رافق هذه المرحلة تمحور حول فكرة واحدة: لن نستطيع التحرك قبل أن ننجح في تخفيف العقوبات، ثم نبدأ بعدها بإطلاق العجلة الاقتصادية وبناء ما تهدّم. وهكذا، علّق الناس آمالهم على وعود التعافي، واستعدّ كثيرون لمرحلة صعبة يتبعها شيء من الاستقرار.
لكن ما إن بدأت العقوبات تُخفّف جزئيًا، حتى بدأت بعض المؤشرات المقلقة بالظهور. خلال أقل من ستة أشهر، وبدل أن يظهر تصور شامل لاقتصاد وطني متماسك، بدأت تتوالى الأخبار عن عقود ضخمة تُبرم مع شركات غير محلية، بآليات طويلة الأجل، وفي قطاعات شديدة الحساسية، أبرزها قطاع الطاقة.
العقد الذي وقّع مع شركة UCC القطرية كان من أوائل هذه المؤشرات. المشروع يتضمن إنشاء وتشغيل محطات كهرباء حرارية، بالشراكة مع شركتين تركيتين (جنكيز وكاليون). العقود نُفّذت وفق نمط BOO وBOT، أي أن الشركات الأجنبية ستملك وتدير وتبيع الكهرباء للسوريين بشكل مباشر لمدد تصل إلى 30 عامًا. كل ذلك من دون سقف سعري واضح، ومن دون وجود هيئة مستقلة تضمن عدالة التسعير أو الشفافية في العوائد.
الأمر لم يتوقف هنا. تم الإعلان عن إنشاء شركة جديدة باسم SyriUS Energy، تملك فيها الشركات الأجنبية 70% من الأسهم، فيما تحوز الدولة السورية عبر صندوق سيادي لم يُعلَن الكثير عن تركيبته على 30% فقط.
ما يُقلق ليس فقط مضمون هذه العقود، بل الطريقة التي أُقرّت بها: لا رقابة تشريعية، لا مساءلة عامة، ولا حتى مشاركة إعلامية حقيقية تسمح بفهم ما يجري. المواطن السوري، الذي طُلب منه أن ينتظر، يجد نفسه اليوم أمام أمر واقع: بنية اقتصادية تُعاد صياغتها من فوق، لا من الداخل، وبعقود لا يملك أي تأثير فيها.
اضف على ذلك حين تُمنح شركة غامضة اسمها “Fidi Contracting” امتياز استثمار كامل المنطقة الحرة في حسياء وجزء كبير من منطقة عدرا الصناعية، عبر “مذكرة تفاهم” موقّعة من سلطة انتقالية بلا شرعية دستورية أو تمثيل شعبي، فالمسألة لا تتعلق بالاقتصاد، بل بالتفريط الممنهج تحت غطاء الاستثمار، يُمرر بيع تدريجي لمناطق استراتيجية، بلا مناقصات، بلا رقابة، وبلا حتى معرفة من هي الجهة الحقيقية خلف هذه الشركة. أي حكومة مؤقتة تُوقّع على هكذا اتفاقيات طويلة الأمد، تُسقط عنها صفة التسيير وتدخل في خانة التجاوز على السيادة في ظل غياب كل أشكال الشفافية والمساءلة، لا يقل خطرًا عن عقد بيع كامل مُلغى منه فقط الثمن المُعلن
على الجبهة الحدودية، ظهرت مؤشرات أخرى. بحسب مصادر أمنية لبنانية، فإن حكومة الشرع رفضت فتح معابر رسمية بين البلدين، مثل العريضة والدبوسية، رغم وجود مطالب لبنانية مباشرة بهذا الخصوص. السبب، وفق هذه المصادر، أن استمرار إغلاق هذه المعابر يفتح المجال أمام التهريب، ما يوفر مصدرًا ماليًا غير رسمي لكنه فعّال، في ظل غياب الإيرادات المستقرة. الاقتصاد الحدودي هنا لا يُدار من منطلق ضبط السيادة، بل من منطلق الحفاظ على تدفق دخل خارج الإطار الرسمي للدولة.
أما في ملف ترسيم الحدود مع لبنان، فرغم الاجتماعات التي عُقدت في جدة وغيرها، لم تُسجَّل أي خطوات عملية. الحكومة ربطت هذا الملف بملفات أخرى أكثر تعقيدًا، كترسيم الحدود مع تركيا وقبرص، ما يعني عمليًا أن الترسيم مؤجل إلى أجل غير مسمى.
في هذا السياق، لعل أكثر ما يُلخّص طبيعة المرحلة، ما حدث في اجتماع مغلق دُعي إليه قضاة بارزون من قبل وزير العدل نفسه. خلال اللقاء، تم عرض مخططات بالأقمار الصناعية تُظهر توزيع أراضٍ واسعة في محيط دمشق، كانت سابقًا تحت سيطرة الفرقة الرابعة، وتم فرزها وتخصيصها لصالح شركات عربية ضمن مشاريع تطوير عمراني وسياحي. حتى خطوط المياه والبنية التحتية رُسمت مسبقًا.
لكن ما طُلب من القضاة لم يكن التحقيق أو الاعتراض، بل البحث في كيفية التعامل مع أي ادعاء ملكية قد يظهر لاحقًا من قبل مواطنين سوريين. بمعنى أدق، كان الهدف هو تثبيت العقود قانونيًا، لا مراجعتها. العدالة هنا لم تُستدعَ لحماية الحقوق، بل لإغلاق الباب أمامها.
ما يُبنى اليوم لا يشبه اقتصاد ما بعد الحرب، بل يشبه إدارة انتدابية على موارد الدولة. الشركات لا تدخل لتبني، بل لتملك. المواطن لا يُستشار، بل يُطلب منه أن يدفع لاحقًا. والمؤسسات بدل أن تكون أدوات حماية، تتحول إلى واجهة إدارية تمرّر ما تم التفاهم عليه خلف الأبواب المغلقة.))”