–
يجتاز الطالب المرحلة الإعدادية في سورية منتقلاً إلى الصف العاشر الذي تبدأ به المرحلة الثانوية. يمضي من الدوام في عامه الدراسي شهر أو شهران حتى يدخل في إحدى الحصص الدراسية فجأة فريق من المدرّسين مع من يسمّى “أمين الوحدة”، حاملين رزم أوراق توزع على الطلاب كي يملأوها، فيقفون حائرين غير مدركين المطلوب منهم. بعد لحظات يعلمون أنها طلب انتساب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وفيه مجموعة من المعلومات التي يجب تدوينها وتعبئة بضع خانات عن فتيات وفتيان لا تتجاوز أعمارهم 16 عاماً.
لا يمتلك أولئك الطلاب ترف الاختيار، فلا يزالون غضين لا يعلمون كيفية الحراك السياسي والمدني أو طريقة الانتساب إلى الأحزاب كي يختاروا ما يناسب آراءهم وتطلعاتهم، ولا سيما أنهم تربية مرحلة “طلائع البعث”، فما أسهل الانخراط في هذه المنظومة ليصبحوا متلقين لمبادئها وأفكارها بتوجيه من السلطة! في تلك الأوراق بنود غامضة ومتطلبات لمن هم أكبر سناً. في أحدها بضعة أسطر لكتابة سيرة ذاتية لطالب أنهى دراسته الإعدادية تواً. تلك السيرة ستكون بيانات عن مكان ولادته ومراحله الدراسية، بلا رصيد علمي أو معرفي يتحدث عنه.
يكون طلب الانتساب عندما يقصد المرء مكاناً أو جهة أو حزباً… إلا في سورية طلب الانتساب يأتي إليك وعليك أن تقر به بلا معرفتك ماهيته ولماذا وكيف؟ تنتسب من دون أن تدري أنك تصبح بعثياً في مرحلة “النصير”، فقد أتممت واجباتك في منظمة طلائع “البعث”، وصرت مؤهلاً لتنخرط في “الحزب القائد للدولة والمجتمع”، لكن مصادرة الرأي وترويض الفتيان والاستيلاء على قراراتهم وخياراتهم تنعكس أدلجة تبث فيهم لضمان ولائهم لـ”البعث” مع ضخ مخزون الشعارات فيهم ليكونوا جاهزين مستقبلاً للدفاع عنه. الرغبة في الانتساب إلى الأحزاب تأتي ممن يكونون قد حددوا مسار حياتهم وانتقوا ما يلائم تطلعاتهم ومجتمعاتهم، فيسعون لتحقيقها عبر برنامج حزبي يسعى لإنجازها.
تتسلط الفئة الحاكمة على المجتمع وتستنبت فيه مراميها مطوّعة سردية تخدم أهدافها عبر دلالات ورموز لتنصبها ركيزة أساسية في تثبيت دعائمها، متناسية أنها تسير في طريق معاكس لإرادة الشعوب، حتى ضلّت سكّتها وارتمت في مطارح تحفر نهاياتها رويداً رويداً، فباتت مثل بندقية تتجاهل أهدافها، وتصوّب في الفراغ. الهيمنة على الوعي الكلي للأفراد تستعين بشعارات تغرف من بحر الناس وتشد وتر محاكاة التقلبات النفسية والسلوكات الاجتماعية لتسدّ فراغاً عبرها، فتتمرّس العلاقات بها بحثاً وتجريباً وتغييراً بحسب الواقع والظروف المحيطة.
قبل دخول الطلاب في مدارس “سورية الأسد” إلى صفوفهم، عليهم أن يصطفوا في الباحات أرتالاً مثنى مثنى، ويرددوا الشعارات والهتافات اليومية التي تبدأ بـ”انتبه” ليرد التلاميذ في المرحلة الابتدائية “طلائع”. وفي المرحلتين، الإعدادية والثانوية، يكون الرد “شبيبة”، فهم صاروا يتّبعون “اتحاد شبيبة الثورة”، رديف حزب البعث، بعدما كانوا “طلائع البعث”، معتمرين “السيدارة” ورابطين “الفولار” على رقابهم، ثم يأتي شعار “البعث”، ومبدأه الأول “أمة عربية واحدة … ذات رسالة خالدة/ أهدافنا … وحدة حرية اشتراكية”، إلى أن ينتهي الهتاف الصباحي بـ”رفيقي الطليعي! كن مستعداً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد”، ليجيب الطلاب: “مستعد دائماً” ثم “قائدنا إلى الأبد” فيتردد الصوت هادراً: “الأمين حافظ الأسد”.
شعار “دمشق أموية” يختزل تاريخ أقدم عاصمة مأهولة تاريخياً في مرحلة الأمويين، مغبناً تراثها الممتد آلاف السنين وحضاراتها المتعاقبة
تتخذ الأنظمة السلطوية السيطرة على البنية الاجتماعية والفكرية والحياتية عاملاً مسانداً لها، لذا تعمل في مسارٍ متوازٍ مع هيئات ومنظمات تغذيها، فمنذ دخول الطلاب إلى المدارس تلتقطهم منظمة طلائع البعث وتبث فيهم الأفكار عن الفرد والقائد والمجتمع مع شعارات يومية تصبح محركاً ودافعاً لحياتهم مع بعض النشاطات الطلائعية والمعسكرات، وتبدأ بتعليمهم أناشيد ثورية بعثية تغذي فيهم الحس الكامن، لتغرس في وعيهم ولاوعيهم الأفكار والمنطلقات التي ستتشكل مع نموهم ولتكون مبادئ يلتقطونها ويتربون عليها، مستعملة الشعارات أداة خطابية تنفذ إلى اللاشعور عبر بثها في الكتب المدرسية ورفدها بأناشيد وأهازيج تمتدح الحزب والقائد عبر منظّرها الأول سليمان العيسى، مستثيرة حماسة المجتمع، ورفع روحه المعنوية، في حقل دلالي يتمحور على أيديولوجيتها الفكرية والعقائدية.
أما “نشيد البعث” (كلمات سليمان العيسى وألحان إلياس الرحباني) فقد تضمن روحاً ثورية تلائم طبيعة الحزب مستنداً إلى العمال والفلاحين وطبقة البروليتاريا عامة، واعداً إياهم بتحسين حياتهم ومشاركتهم في مفاصل الحياة السياسية، فهم قاعدة الهرم في التسلسل الحزبي الذي يصل إلى الأمين العام (الرئيس). ولا تغيب شعارات “المسيرات” الطلابية التي تخرج في المناسبات “الوطنية” لتهتف للقائد الرمز و”بطل التشرينين” (نسبة إلى حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 و”الحركة التصحيحية” في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني) بشعارت مثل “حافظ أسد … رمز الأمة العربية”. أما الجداريات التي تصور “القائد المؤسس” وحوله شعارات وعبارات كـ”لن تركع أمة قائدها حافظ الأسد”، فلم تكن تخلو شوارع المدن الكبرى منها. وبعد وفاة ابنه الأكبر باسل في 21 يناير/ كانون الثاني 1994، بُثَّ “باسل المثل … بشار الأمل”، ليغدو شعار تهيئة بشار لوراثة الحكم بعد وفاة الوريث المعتمد.
“الأسد أو نحرق البلد”، صوت علا في الثورة السورية، فقد رسمه النظام بعناية. إنه الصيغة المثلى التي تبين تأدية الشعار غرضاً سياسياً أو هدفاً ما، فلقد رُفِع كي يبعث رسائل إلى السوريين بأن الأسد باقٍ، ولو على جثث السوريين ودمائهم، فهو لن يتنازل أمام رغبات الشعب ولن يحقق أي مطلب لهم. سيحرق البلد بمن/ ما فيها قبل رحيله، فهذا ما أثبته وصنعه بجعل سورية بلداً مرهقاً مستنفداً من عوامل نهوضه، حتى أمسى تعيساً “كعظمة بين أسنان كلب”، بتعبير الشاعر رياض الصالح حسين.
تحتاج البلدان والسلطات والمرشّحون للانتخابات إلى شعارات تخدم أهدافهم، لكنها يجب أن تكون مدروسة محققة معايير جمعية لأفراد الوطن ولمصلحته
خاض رئيس النظام السوري الفارّ، بشار الأسد، في مايو/ أيار 2021 “انتخابات” رئاسية منتقياً شعار “الأمل بالعمل”، معتمداً عليه كي يبث أفقاً مفتوحاً بعد تحقيق استقرار جزئي في البلاد وتوقف الحرب عقب اتفاقات خفض التصعيد، لكن كعادة الأسد في سيرورته وشعاراته، فقد تكسّرت الآمال والعمل توقف، بل انحدر إلى مستوى قارب الحدود الدنيا، ولازم اليأس الناس وترسخ في نفوسهم العجز والخذلان من بلد وقيادة تذوي.
“من يحرّر يقرّر” الشعار الأبرز الذي رفع بعد سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024. هذا الشعار يشبه شعارات المرحلة الأسدية التي قدمت نفسها أنها الوحيدة القادرة على إدارة البلد وفق رؤيتها، وأنها الأدرى بالسياسات المحلية والخارجية، فجاء “من يحرر يقرر” على المنوال نفسه، مقتفياً آثار الحلول بأنه الوحيد الذي سيوصل البلاد إلى الاستقرار، ولا يحقّ لأحد المشاركة في صنع القرارات، فهم من حرّروا وسيبنونها وحدهم بإلغاء المشاركة السياسية من الفئات الأخرى. ومثله شعار “دمشق أموية” الذي اختزل تاريخ أقدم عاصمة مأهولة تاريخياً في مرحلة الأمويين، مغبناً تراثها الممتد آلاف السنين وحضاراتها المتعاقبة.
حتماً، تحتاج البلدان والسلطات والمرشّحون للانتخابات إلى شعارات تخدم أهدافهم، لكنها يجب أن تكون مدروسة محققة معايير جمعية لأفراد الوطن ولمصلحته، ليست لخدمة فرد لتعظيمه وتستقويه على الآخرين، فيستحيل من منفذ لسياسات الدولة إلى مسيطر عليها.