ارتفعت مؤشرات التفاؤل الخاصة بالاقتصاد السوري مؤخراً، فتعليق العقوبات سمح بالحديث عن دخول مساعدات ورؤوس أموال ضخمة لتحريك عجلته. الأوساط المقرَّبة من الحكومة تنشر مؤشرات متفائلة، والمناخ العام متلهّف لاستقبال هذه الأخبار، حتى من دون البحث في تفاصيل الصفقات التي أُعلن عنها في الأسابيع الأخيرة مع جهات خارجية.
الخلاص من الحضيض الاقتصادي الذي وصل إليه البلد هو بمثابة مطلب للغالبية الساحقة، بصرف النظر عن تباين التوجهات السياسية. والإقرار بأن التحوّل الاقتصادي لا بد آتٍ منتشر بين الغالبية، بصرف النظر عن عدم الاتفاق على قضايا الخصخصة، وتحديداً في قطاعات خدمية حيوية مثل الكهرباء. الأمر شبيه بأولوية إسعاف المريض الذي يحتاج أجهزة إنعاش، وبعد إنقاذه يمكن البحث في سجله الصحي العام.
الهاجس الملحّ الذي ينافس الهاجس الاقتصادي هو المتعلق بالأمن. وكان العديد من مسؤولي السلطة قد ربط تحسّن الجانب الأمني برفع العقوبات وتحسّن الأوضاع الاقتصادية. لكن هذا الربط، الصحيح مبدئياً، يحتمل وجوهاً عديدة من التأويل، بل وجوهاً متناقضة. ولعل التفسير الأقرب هو في الشكوى من شحّ الأموال، ما يمنع بناء أجهزة أمنية متطورة، وهو التفسير الذي يمنح الجيش وقوات الأمن أولوية من حيث التمويل، تضاهي ما تبدو أنها أولوية للاستقرار.
الربط التلقائي السابق جرّبته سوريا، من خلال إعطاء أولوية للإنفاق العسكري بذريعة التصدي لإسرائيل، ومن خلال إعطاء أولوية (غير معلنة دائماً) لأجهزة الأمن من أجل تحقيق الأمن السياسي للسلطة. في الشق الاقتصادي للعسكرة، الحديث هنا عن تضخم قُدِّر في بعض السنوات بأنه تجاوز 400 ألف عنصر، هم قوام أجهزة الجيش والشرطة والمخابرات، مع كل تبعات هذا الرقم على الاقتصاد الحكومي، وبما له من دلالات اقتصادية واجتماعية أوسع، فضلاً عن دلالته على نوعية السلطة.
بدءاً من عام 2012، يجوز القول أن اقتصاد العسكرة بات هو الأكثر شيوعاً وسيطرة في عموم الأراضي السورية. فالمناطق التي كان يسيطر عليها الأسد فرغت تدريجياً من النشاط الاقتصادي المعتاد، والتحق الشباب إما بالقوات النظامية أو بقوات الشبيحة، أو بالميليشيات الإيرانية. أما مناطق سيطرة المعارضة فقد عانى معظمها من حصار كلي أو جزئي يمنع النشاط الاقتصادي المعتاد، لتكون الكتلة المالية الأكبر بحوزة الفصائل التي تحصل على تمويل ورعاية خارجيين. هذا الوضع أدّى بالكثير من الشباب إلى التطوع لقاء راتب بوصفه الخيار المتاح، وشبه الوحيد في العديد من الأحيان.
في الحصيلة، كان البلد بأكمله يعتمد على مساعدات خارجية مقترنة بالعسكرة، وإلى جوارها أنشطة ربحية غير مشروعة، منها ما هو مرتبط بالسيطرة على المعابر الداخلية، ومنها ما يتعلق بنشاطات جرمية عابرة للحدود. باستثناء قوات الأسد وشبيحته، بقيت الفصائل الأخرى تحت مظلة وزارة الدفاع، وتم تطويع دفعات جديدة من المنتسبين إلى الجيش والشرطة، ولا تُعرف بعدُ نوايا السلطة الخاصة بالشأنين العسكري والأمني، لجهة السقف المستهدف من عدد المنتسبين.
السيناريو الأفضل للحالة السورية يتعيّن بتحوّل الكتلة الكبيرة من المنخرطين في العسكرة إلى أنشطة إنتاجية حقيقية، فهذه النقلة (على المدى المتوسط والبعيد) هي التي ستفكك الدور الحاسم للعسكر في الشؤون الداخلية. مدنية الدولة، في الحالة السورية، لا تأتي فقط بتحييد الجيش والمخابرات عن السلطة. المدخل إليها اقتصادي، إذا فُتحت أمام الأعداد الضخمة من الشباب أبواب العيش الطبيعي، متضمناً الحصول على دخل يُغني عن التطوّع في الجيش والمخابرات.
الخيار الاقتصادي للسلطة مرتبط أيضاً بنواياها، فالتحوّل إلى اقتصاد السوق الحر بالمعنى الليبرالي الكلاسيكي سيتضمن مع الوقت ابتعاداً عن العسكرة، لأن الشرائح الأوسع المدفوعة بالهمّ المعيشي ستبحث عن فرص العمل في اقتصاد ناهض بعد الحرب. كان هذا التحول مما لا يريده العهد البائد بنسختَي الأب والابن، إدراكاً منهما لكون إفلات الاقتصاد سيؤدي إلى تقويض العسكرة كجوهر للسلطة الحاكمة. الخصخصة الجزئية التي قام بها الابن، وقوانين الاستثمار، كانت غطاء لسيطرته مع مجموعة من المحاسيب على الاقتصاد، وليست إطلاقاً على سبيل تحريره من قبضة السلطة.
طبيعة الاستثمار في العسكرة والأمن، وطبيعة التحول الاقتصادي المقبل، هما مؤشّران متكاملان على توجه السلطة. فالاستثمار المفرط في العسكرة يؤشّر، كما في كل التجارب المماثلة، للتحوّل إلى اقتصاد ممسكوك رغم أنه لا يعتمد على القطاع العام، وقد يكون مزيجاً من رأسمالية الدولة ورأسمالية متحالفة مع السلطة، لا منفصلة عنها وحُرّة تالياً على صعيد التنافس الاقتصادي وعلى الصعيد السياسي.
نظرياً، تتمثّل المعضلة السورية في الحاجة إلى الاستثمار في المجال الأمني، من أجل ضبط السلم الأهلي، وفي تغليب الحاجة الراهنة على دور التحول الاقتصادي (البطيء) في تعزيز السلم والأمان المجتمعيين. وإغراء العسكرة يبقى وارداً، بحيث يستمر وجودها كعائق أمام الليبرالية السياسية، ما يقتضي ترجيحها على التحول السياسي الديموقراطي.
ما يبدو تناقضاً، بين استحقاق مستعجل وآخر أقل إلحاحاً، يجد حلّه في النظر إلى بعض الجوانب الأمنية من زاوية تعبيرها عن أوضاع اقتصادية متردية، في حين يعبّر بعض آخر منها عن غياب الحياة السياسية منذ عقود. إشراك المجتمع في ملف السلم الأهلي من شأنه توفير أعباء الاستثمار في العسكرة والأمن، ومن شأنه توجيه رسالة مغايرة تنفي الرغبة في احتكار السلطة. والأمر، هنا كما في ملفات أخرى، لا يقتضي إنجازات سريعة أو سحرية غير ممكنة بطبيعة الحال، بل القيام بخطوات متكاملة توحي بالثقة. وأن يُنفق جزء من المبالغ على الدور الاجتماعي للدولة، بدل إنفاقه على العسكر والمخابرات، فهذا على سبيل المثال يصنع أمناً اجتماعياً مستداماً، في حين يتحول الإنفاق الأمني غالباً إلى هاجسٍ سلطوي يجعل الكلفة تتضخم مع الوقت.
الحضيض الذي وصلت إلى سوريا يجعل السلطة الحالية تحظى بميزة استثنائية، لجهة اكتساب شعبية على أرضية أي تحسن اقتصادي، حتى ذلك الذي لا بد منه. ولجهة تغليب اللهفة إلى التحسن الاقتصادي على الأسئلة المتعلقة بفحواه ومساراته المستقبلية، أي لجهة عدم وجود رقابة ولو رمزية على الأداء، بل انعدام التفكير بأهمية وضرورة وجود الرقابة. في الواقع، لا يُعرف سوى شذرات عمّا يحدث الآن، ولا معلومات عن المستقبل الذي يُعَدّ حالياً، والخشية من دورة عسكرة جديدة تبقى ماثلة طالما وجِدت أسبابها الاقتصادية والسياسية.
increase
حجم الخط
decrease