إعادة تشكيل الطائفة
تحولات السلطة والعنف في سوريا ما بعد الأسد
سقراط العلو
في مقالٍ سابقٍ منشور في موقع الجمهورية.نت في شباط (فبراير) الماضي، بعنوان «الاقتصاد السياسي للعنف في سوريا ما بعد الأسد: ديناميات إعادة توزيع السلطة والثروة»، تناولتُ العنف الحاصل حينها والمُحتمَل حدوثه من منظور الاقتصاد السياسي، بوصفه أداةً لإعادة توزيع السلطة والثروة بين الكيانات العسكرية/ الحوكمية التي أفرزتها سنوات الحرب. قلتُ في المقال إن العنف شرٌّ لا بد منه لبناء الدولة في الحالة السورية؛ إلا أن الحكومة الجديدة عليها أن تقلّله قدر المستطاع لصالح التفاوض، وأن تضبطه بالحد الأدنى من الانتهاكات، من أجل الحصول على شرعية استخدامه. وحذّرتُ من أن الخطر الأكبر آنذاك يتمثل في أن تتحوّل أي مواجهة بين الحكومة الانتقالية وهذه القوى إلى صراع يأخذ طابعاً طائفياً بحكم التكوين الديمغرافي للمناطق التي تسيطر عليها، تُستخدَم فيه الهويات الدينية والعرقية كأدوات للتعبئة.
اليوم، ما كان يُخشى حدوثه أصبح واقعاً. فالصدامات في الساحل السوري وجرمانا وصحنايا والسويداء أظهرت أن العنف لم يعد مجرد ضرورة أمنية أو أداة لإعادة توزيع السُلطة والنفوذ، بل بات يُغلَّفُ بخطابٍ طائفي يمنحه شرعية رمزية في عيون الحواضن الاجتماعية للجماعات المتنافسة. ما يُقلق هنا أن السُلطة لم يتمَّ جَرُّها لتتحول إلى لاعب في ميدان العنف فقط، وإنما لتبني خطاب الجماعة الطائفية، سواء بطريقة مباشرة عبر مسؤوليها، مثل وزير الخارجية حين يمدح «النفير العام» للهجوم على الساحل بقوله إن «الشعب هو جيش الدولة»، أو بيان وزارة الداخلية الذي يشكر فيه مشاعر الناس الصادقة (بما تضمنته تلك المشاعر من دعوات تحريضية ضد الدروز) بعد المقطع المسيء للرسول محمد (ص). أو بطريقة غير مباشرة عبر إعلام وإعلاميين داعمين للسُلطة، يَستخدمون التجييش الطائفي مع كل موجة عنف، ويُكرِّسون صورة «الأموية الجديدة» في وقت السلم بوصفها عنواناً للدولة.
وهنا، يجب التحذير من أن انزلاق الحكومة في ميدان العنف كجماعة، وتورطها في تطييف الصراع السياسي مع باقي الجماعات المناوئة، وإنْ كان يُعيد توزيع السلطة لصالحها على المدى القصير؛ إلا أنه قد يُفقدها شرعيتها، ومن ضمنها شرعية احتكار العنف، ويؤدي إلى تآكل الحيّز الوطني المُشترَك بين السوريين على المدى الطويل. وهو الأمر الذي سيُعزِّز منطق «أمن الجماعة» الذي يسود اليوم بين الجماعات السورية، حيث تُقدَّم الدولة الجديدة، التي يُفترَض أن تكون الحاضنة الجامعة، بوصفها «منجزاً سُنّياً»، وأن أي مقاومة أو معارضة لها ليست عملاً سياسياً أو في إطار إعادة توزيع السُلطة، وإنما تمرداً يهدد مكتسبات الثورة. وبهذا، تُقصى جماعات بأكملها من معادلة المواطنة، وتُحوَّل مؤسسات الدولة إلى أدوات فئوية، لا كيانات وطنية. وفي المقابل، تستجيب أطراف من العلويين والدروز والكرد بخطاب لا يقل طائفية وعرقية، يُصوِّر الدولة الجديدة كمشروع إقصاء، ويحوِّل الدولة الوليدة من مشروع جامع إلى سلطة فئوية تسعى للهيمنة لا للتمثيل. هذا الجنوح نحو التطييف من قبل اللاعبين في ميدان العنف السوري لن يُنتِجَ سوى معادلة صفرية، حيث كل مكسب لطرف فيها يُعَدُّ خسارة وجودية للطرف الآخر، وكل تنازل يُفسَّر كضعف، لا كخطوة نحو التوافق. وبذلك يُعاد تعريف الدولة كحصيلة توازنات طائفية عرقية، لا كإطار جامع للمواطنة.
وهذا ما سيحرم سوريا من فرصة نادرة لتصحيح خطأ تاريخي في مسار الدولة، هو ما أوصلنا إلى ما نحن فيه من تفكّكٍ إلى جماعات سورية مع نهاية جمهورية الأسد وبداية تشكل أخرى، لم تتضح ملامحها بعد. وهي الحجة التي يقدمها هذا المقال في وجه خطاب الكراهية السائد بين السوريين، في محاولة لوضع الطائفية في المشهد الحالي ضمن سياقها الحقيقي كإرث سياسي تاريخي يتم استحضاره واستخدامه بوعي من الفاعلين، وليست كحالة بنيوية أو انقسامٍ مجتمعيٍ أصيل.
إن ما يحدث في سوريا اليوم لا يُعدّ خروجاً عن مسارها السياسي التاريخي، بل هو حلقة جديدة في سلسلة الجمهوريات السورية التي نشأت دون تفاوض حقيقي على طبيعة الدولة وهوية مواطنيها. فمنذ الاستقلال، تشكلت الدولة السورية على أُسس فوقية لم تُبنَ على عقد اجتماعي شامل، بل على تفاهمات جزئية وهشّة، غالباً ما كانت محكومة بموازين قوى غير متكافئة.
فمنذ نشوء جمهورية الاستقلال (1946)، لم تُبنَ الدولة السورية على قاعدة تفاوضية شاملة لكل مكوناتها، بل نشأت كنموذج قومي مركزي فوقي، استند إلى مرجعية عربية وسُنّية مدينية، وتمت فيه تسويات انتقائية ومحدودة مع بعض الأطراف دون غيرها. العلويون والدروز تم دمجهم إدارياً بعد مفاوضات غير متكافئة، والأكراد جرى تجاهلهم في وقتٍ تم فيه إنكار وجودهم القومي والثقافي.
لاحقًا، في جمهورية الوحدة مع مصر (1958–1961)، تم فرض مشروع وحدوي قائم على القومية العربية الصلبة دون أي تفاوض داخلي، مع تذويب للهويات الفرعية تحت شعار العروبة. وجاءت جمهورية البعث (1963) لتُكمل هذا المسار من خلال مشروع سلطوي أحادي، اعتمد على الزبائنية الأمنية والتوظيف الطائفي بدلاً من بناء عقد وطني جامع. وفي كل تلك الجمهوريات، لم يُطرَح التعدد السوري كمسألة سياسية تتطلب تفاهماً وصياغةً تشاركية للعلاقة بين الدولة ومواطنيها. ثم لعب تغييب السياسة في عهد الأسدَين دوراً مركزياً في تعزيز الطائفية في الذهنية السورية، عبر تحويلها كغيرها من البُنى التقليدية إلى وسيط للعلاقة بين المجتمع والدولة.
وفي لحظة اندلاع الثورة، لم يكن هناك فضاء سياسي يستوعب مطالب المُحتجّين. فالنظام رفضَ الإصغاء، والمعارضة لم تمتلك أدوات التنظيم السياسي الكافية، فبات السلاحُ هو الوسيلة الوحيدة للضغط، وباتت الطائفةُ هي المبرر الأكثر فاعلية لحشد الأنصار.
ومع تَفسُّخِ جسد النظام السوري، وطولِ سنوات الحرب وتعدّدِ مساراتها، باتت الطائفة والعرق هما المحددان لخطوط الانقسام الجغرافي/ الحوكمي في الخارطة السورية. ففي الشمال، توافرت لأول مرة في تاريخ سوريا الحديث شروط تشكل جماعة/ طائفة سُنيّة؛ حيّز جغرافي مُحدَّد ومحصور بين أطراف صراع طائفية/ عرقية معادية، مع ملايين المهجرين قسراً والمُحمَّلين بمظلومية غير مسبوقة للسُنّة، وسلطات بتوجُّه إسلامي طَرحَ مقربون منها مراراً فكرة «الكيان السُنّي» كبديل لإسقاط النظام. وفي الساحل، ورث بشار الأسد تمثيلاً أحادياً للعلويين، لم ينبثق عن إرادتهم، بل عن منطق الغلبة الأمنية، عزَّزه بالترويج لنفسه كحامٍ للأقليات في مواجهة أكثرية «سُنيّة مُتطرفة». والكُرد في مناطقهم بنوا حكماً ذاتياً تُديره مؤسسات أمر واقع لا تحتمل التعددية الداخلية، وبدرجةٍ أقل الدروز في السويداء، والذين تعاملوا على اختلاف تياراتهم مع الطائفة بوصفها غطاء للتفاوض السياسي أكثر من كونها مكوّناً دينياً/اجتماعياً، الأمر الذي قوى بطبيعة الحال موقف المشيخات التقليدية وتوابعها من الفصائل المسلحة.
هذا التمثيل الأحادي لكل طائفة لم يأتِ نتيجة خيار حُرٍّ داخلها، بل نتيجة الغلبة العسكرية أو السيطرة الأمنية. والنتيجة أن الطائفة/الحيّز الجغرافي تم تسييسها وتحويلها إلى كيان مغلق، لا يسمح بالتعدد، ولا يحتمل الاختلاف الداخلي. وهو ما مهّدَ لتحوّل الطائفة/العرق إلى بديل عن الدولة، لا مُجرَّد مكوّنٍ فيها. ومما يميز سلطات الأمر الواقع المتعددة في جغرافيا الحرب السورية، أنها كيانات عسكرية، لم تعتد تغليب منطق السياسة على العنف، فالسياسة في سوريا خلال الحرب لم تتجاوز مفهوم التسوية بين مهزوم ومنتصر، أو لا غالب ولا مغلوب بعد جولة عنف.
في سياق هذا السرد التاريخي والمعاصر، وبعد نجاح «الكيان السُنّي» في إسقاط نظام الأسد، يُصبح ما يجري من تفكّك إلى جماعات سورية أمراً مُبرَّراً في ظل التنافس على السلطة والثروة، ومع الخوف من طبيعة السلطة الحالية، إضافةً لانعدام خبرة السياسة، لصالح احتراف العنف بين الأطراف المتنافسة. وهنا تصبح هذه التحركات والمواقف دون الوطنية مفهومةً، لأن ملامح العقد الاجتماعي الجديد لم تتبلور بعد، وهي في الوقت ذاته تحمل طابعاً طائفياً أو عرقياً، حتى في تفاعل العرب السُنّة مع مختلف الأحداث، وهو أمر مبرر في السياق السوري.
فبعد وصولها للسلطة، وجدت هيئة تحرير الشام نفسها أمام استحقاق الإيديولوجية الضروري لغطاء الشرعية؛ فإيديولوجيتها لا تصلح للحكم داخلياً أو إقليمياً أو دولياً. فكان الخيار احتكارَ الثورة أولاً كغطاء شرعي، وإلغاء كل الكيانات الممثلة للثورة سابقاً (على عِلّاتها)، ثم الثورة نفسها كمبادئ، تحت مسمى الانتقال من الثورة إلى الدولة. إلا أن الثورة بطيفها التمثيلي الواسع غير كافية لخلق عصبية حُكْم شعبية بالمعنى الخلدوني؛ لذلك تم ابتداع وتغذية فكرة «الأموية» لشد عصب العرب السُنّة ومحاولة تصنيع طائفة منهم؛ عبر المظلومية وما تبعها من نشوة تصوير انتصار الثورة كانتصار سُنّي، وتوحيد المرجعية الدينية بمجلس إفتاء يجمع المذاهب السُنيّة المختلفة تاريخياً تحت مظلة السُلطة الجديدة.
وعلى الأرض وخارج الجغرافيا السُنّية الافتراضية والموالية، يبدو أن الحكومة لم تخرج عن عقلية «الهيئة» في قضم الفصائل المُسلحة والتمدد على الأرض بذرائع متعددة سابقاً، وبذريعة «حصر السلاح بيد الدولة» حالياً، وهي الآلية التي اعتُمِدَت ومن المرجح أن تُعتمَدَ في حال توافر الظرف الإقليمي والدولي المناسب مع باقي البنادق غير السُنيّة. نظرياً قد تبدو تلك الآلية مُبرَّرةً بشرعية الحكومة؛ إلا أن تلك الأطراف وغيرهم من السوريين لا يعترفون، أو غير راضين بالحد الأدنى، عن المسار الذي أكسب الحكومة تلك الشرعية، من مؤتمر الحوار الوطني إلى الإعلان الدستوري وتشكيلة الحكومة التي أُُقصي منها المنافسون من جماعاتٍ أخرى بشقيها العسكري والسياسي.
وفي حال استمرار تلك الآلية في فرض الشرعية القائمة على تطييف الصراع مع المنافسين؛ فمن المرجح أن تنجح الحكومة الانتقالية بتصفية الخصوم العسكريين، وإعادة توزيع السُلطة لصالحها، خصوصاً مع توافر الدعم الإقليمي والدولي؛ إلا أنها ستوسع من قاعدة معارضيها داخل الجماعات السورية، والتي سيزداد تمسُّكها بعصبياتها الطائفية العرقية بوصفها إطار الحماية والتمثيل الوحيد، في ظل غياب سياسة حقيقية.
أما على المدى الطويل؛ فإن سياسة قضم الأرض القائمة على الغَلَبة، والتعاطي مع المناطق السورية باعتبارها مساحات جغرافية يكفي السيطرة عليها عسكرياً ونزع سلاحها، دون التعامل الموازي معها كجماعات سورية يجب أن تكون شريكة في عقد اجتماعي، فهي لن تنتج إلا حالة استقرار طائفي بالإخضاع، وليس دولة. وهنا تكرّرُ السُلطة الحالية نهجَ نظام الأسد في إنتاج تسويات عسكرية مُفرَغة من أي معنى سياسي، في ما عُرف حينها بـ«اتفاقات المُصالحة المحلية»، وهي الأمر الذي دَرستُهُ في رسالة ماجستير منشورة في العام 2022، خَلُصَتْ إلى أن هذا النوع من الاتفاقيات سيقود سوريا إلى نموذج الصراع الاجتماعي الممتد، وأن الهدوء الذي كانت تشهده الجبهات حينها ليس إلا فترة هدوء تسبق موجات عنف ستكون على أساس عرقي أو طائفي. واليوم، السُلطة الحالية بتهميش وإقصاء المكونات السورية وتغييب السياسة؛ فإنها تخلق الشروط ذاتها لهذا النوع من الصراعات، مع فارق عدم وجود طرف إقليمي أو دولي راغب بإذكاء الصراع، ولكن هذا الظرفَ إن توفر اليوم، فقد لا يتوفر غداً. ولو استبعدنا فرضية هذا النموذج وإمكانية تحققه؛ فلدينا خبرة الجمهوريات السورية السابقة، والتي أودت بنا آخِرُها إلى كل تلك المقتلة والخراب بعد أكثر من ستين عاماً.
لم َيفُت الأوان، وهناك فرصة كبيرة لخلق سوريا جديدة في ظل التغيرات الاستراتيجية في الإقليم، وما قد تمثله عملية إعادة الإعمار من فرصة لنهضة اقتصادية، لكن كُلَّ هذا رهنٌ بقدرة السُلطة الحالية على الانتقال من عقلية الجماعة التي ترى في الدولة غنيمة إلى عقلية الدولة.
مقالات مشابهة