في كل محاولةٍ جادة لفهم ظاهرة اجتماعية-سياسية، يقف الباحث أمام مرآة مزدوجة: مرآة عقله النقدي، ومرآة رغبته الإنسانية المجبولة بالأماني والمخاوف. هنا، تكمن الإشكالية القديمة-الجديدة: كيف ينفكُّ الباحث عن تحيّزاته الثقافوية والإيديولوجية، تلك التي تتسلل خفية إلى طريقته في قراءة الظاهرة نفسها؟
ففي العلوم الاجتماعية، ليست الظواهر موضوعاتٍ جامدةً نَرصُدها من وراء زجاج المختبر. بل إنها كائناتٌ حية، متغيرة، تتفاعل مع من يُراقبها، بقدر ما يُراقبها هو. ومن هنا، تصبح مهمة الباحث أكثر من مجرد جمع بيانات أو نظم سرديات: إنها مقاومة مستمرة لمغريات التفسير المُسبَق، ولإغواءات «النتائج الجاهزة» التي تلوح له في أفق رؤيته.
ويبلغ هذا التحدي ذروته حين يلامس الباحث ظاهرةً شديدة التعقيد والتشظي، كما هي الحال في سوريا اليوم. فالواقع السوري الراهن، بكل تحولاته الميدانية، السياسية والاجتماعية والثقافية، يفرض ضغطاً نفسياً مُقدَّرَاً على الباحث، يحفّزه، ربما من حيث لا يدري، على إسقاط رغباته ورؤاه المسبقة على ما يدرسه، بدلاً من أن يترك للوقائع حقها في التعبير عن ذاتها.
إن ما يجعل هذه المهمة شاقة حقاً، هو ذلك التوتر الأبدي بين ما يريد الباحث أن يكون عليه الواقع، وما هو كائنٌ في الحقيقة. هنا، يصير الجهد المطلوب لفكفكة التحيُّزات جهداً نفسياً (جوّانياً) قبل أن يكون فكرياً. إنه جهدٌ لمقاومة الحاجة الفطرية لتسويغ قناعاته أو تهدئة قلقه الوجودي. جهدٌ يتطلب من الباحث شجاعة الاعتراف بأن «الموضوعية» ليست وضعيةً صلبةً نهائية، وإنما هي، لدى كل باحثٍ جدّي، معركةٌ يومية مع الهوى الشخصي، وصرامة أخلاقية تحمي الباحث من أن يصبح أسيراً لرغباته.
وبالعودة إلى الحالة السورية، يظهر هذا التحدي بوضوحٍ مضاعف: إذ لا يملك الباحث السوري، أو المَعني بسوريا، ترفَ الحياد الميتافيزيقي. فهنا، تختلط السياسة بالذاكرة، والحاضر بالمستقبل، والانحيازات الثقافية-الإيديولوجية بالخوف والأمل. وكلما ارتفعت حرارة هذا الواقع الملتهب، تعاظمَ الخطر: خطر أن يتحوّل البحث من أداة كشف وتفسير، إلى مجرد أداة تبرير وتأويل ذاتي.
لهذا، تأتي ضرورة النقد الصارم، الذي لا يكتفي بتفكيك الظاهرة المدروسة، لأن الحقيقة، في النهاية، ليست فقط ما نكتبه في أوراقنا، بل ما نجرؤ على اكتشافه داخل ذواتنا من تحيّزاتٍ لا تنتهي.
إن النص المنشور في موقع الجمهورية.نت، للكاتب مالك الحافظ، بعنوانين أساسي وفرعي هما «سوريا كدولة على حافة الدولة» ثم «المرحلة الانتقالية بوصفها نظاماً، والهشاشة بوصفها أداةً للحكم» يقدّم، دون شكّ، قراءة أدبية – تحليلية ثرية تنبض بالحيوية والتشبيك المعرفي، مُستعينةً بأدبيات فكرية متنوعة تمتد من باومان إلى فوكو وأغامبن. إلا أن النص، رغم عمقه الرمزي، يعاني من تخمةٍ ثقافوية-إيديولوجية، تكاد تحجب عنه الدقة المنهجية والموضوعية اللازمة لدراسة «الدولة» كمفهوم في العلوم الاجتماعية والسياسية المعاصرة. وسنستعرضُ أدناه، بشيءٍ من الاختصار، مداخل الحجب المذكور.
أولاً: الانحيازات الثقافوية المُسبَقة
ينطلق النص من افتراضٍ مُسبَق بأن النمط السلطوي الجديد في سوريا هو بالضرورة إعادة إنتاج لعقليةٍ سلفية-دعوية، دون أن يأخذ في اعتباره حقيقة أن بناء الدولة الحديثة، حتى في ظروف الفوضى، لا يُختزَل في المرجعيات الدينية أو الرمزية وحدها. وهذا الميلُ الثقافوي يتجاوز حقيقة أن الدولة الحديثة، في تعريفها الوظيفي، لا تُقَاس فقط بمنظومات الرمزية/الشرعية، بل كذلك (وربما أساساً) بقدرتها على:
– احتكار العنف المشروع.
– تقديم الخدمات الأساسية.
– إدارة الموارد.
– تنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة وفق عقد اجتماعي واضح.
وهذا يُفضي بالنص إلى تصوير الدولة السورية الحالية وكأنها كيانٌ طافح بالهشاشة فقط، دون فحص أدواتها الواقعية (الإدارية، الاقتصادية، الأمنية) التي يُمكن، شئنا أم أبينا، أن تساهم في بناء مسار دولة.
ثانياً: الانحياز الإيديولوجي بشأن الرمزية الدينية
يُعالجُ النص، بوفرةٍ رمزية، السلطة الجديدة من منظور سلفي-جهادي. ولكن، لأن النص يوحي بهمٍّ يشغل الكاتب، مُتمثِّلاً في الربط بين السلطة وذلك المنظور، فإنه لا ينتبه، وبالتالي، لا يُقدّم أي قراءة جدية للوقائع المؤسسية الناشئة فعلياً في سوريا:
– فلا تحليل للإدارات المحلية الجديدة، ولا لنشوء هيئات حكم محلية ناشئة رغم كل مظاهر الهشاشة.
– ولا مناقشة لبُعد الاقتصاد السياسي: العلاقة بين الدولة والسوق، القطاع الإنتاجي، سوق العمل، إدارة الموارد الطبيعية، الاستثمارات، مبادرات الإعمار.. وغيرها كثيرٌ يجري العمل عليها، وهي عناصر أساسية لفهم قدرة الدولة (أو حتى شبه الدولة) على التشكل.
– ولا اعتبار للمتغيرات الإقليمية والدولية (من علاقات دمشق-الرياض الجديدة، إلى شراكات تركيا-الخليج…) التي أعادت صياغة البيئة السياسية والاقتصادية في سوريا خلال العام الماضي.
ثالثاً: غياب الموضوعية في ربط الديناميكيات المحلية بالعالمية
يُبالغُ النص في اعتبار الهشاشة حالةً «مقصودة» ومَنهجيةً دائمة، وكأنها خيارٌ استراتيجي واعٍ ومُستدام لأصحاب مشروع بناء الدولة في سوريا. من هنا، فإن مناقشة ما نَزعمهُ عن غياب الموضوعية، في هذه النقطة بالذات، يحتاج مزيداً من الشرح.
إذ تُبيِّنُ الأدبيات المتنوعة في علم الاجتماع السياسي، من ماكس فيبر وتشارلز تيلي إلى فرانسيس فوكوياما، أن الهشاشة الظاهرة للدولة ليست بالضرورة قَدَرَاً أبدياً أو سِمةً جوهرية. بل هي، في كثير من الأحيان، انعكاسٌ لظروف تاريخية-اجتماعية صعبة تسبقُ أو ترافق ولادة الدولة، مثل انهيار النظام القديم، أو تفتُّت البنية الاجتماعية-الاقتصادية، أو التدخلات الخارجية الكثيفة التي تُربك بناء المؤسسات. وفي هذا الإطار، تصبح الهشاشة بمثابة أثر مرحلي لحالة انتقالية لم تكتمل بعد، أكثر منها دليلاً على فشلٍ بنيوي دائم.
ويُذكّرنا علماء، مثل جويل ميغدال وجيمس سكوت بأن «القُدرة المؤسسية» للدولة يمكن أن تنمو تدريجياً حتى في سياق الفوضى والهشاشة، شرطَ أن تمتلك القيادةُ زمامَ المبادرة، وأن تُدرك الضرورات الواقعية لإعادة إنتاج الشرعية والسيادة. ذلك أن الدولة، في نهاية المطاف، هي كيانٌ قابل للتكيُّف، وتتمتع بمرونةٍ كامنة في بنيتها، ما يجعلها قادرةً على تحويل «الفجوات» الظاهرة إلى منصات للنمو وإعادة التأسيس.
وفي هذه اللحظة الدقيقة، يصبح التفاعل الجدلي بين النظرية والواقع شرطاً أساسياً لتجاوز الهشاشة: فالتطور الفكري السريع لقيادة الدولة، حين يقترنُ بالتعلم المستمر من التجارب الناجحة، سواء الإقليمية منها أو العالمية، يوفر لها القدرة على بناء رؤيةٍ إصلاحية مرنة تستجيب للتحديات الداخلية والخارجية. وكما أظهرت دراسات بناء الدولة الحديثة في جنوب شرق آسيا (مثل سنغافورة وماليزيا بعد الاستقلال) وأجزاء من أوروبا الشرقية بعد الشيوعية، فإن الانفتاح على الخبرات والنصائح والاستشارات الخارجية يمكن أن يُسرِّعَ بناء المؤسسات القادرة، ما دامت القيادة تحتفظ بقدرتها على تكييف هذه الخبرات وفق سياقها المحلي.
ما من شكٍ في أن أحد أخطر العوائق أمام تجاوز الهشاشة هو الجمود الإيديولوجي، أو الرغبة في استنساخ نماذج خارجية دون تكييفها مع البنية المحلية. فهنا بالذات، يُصبح تكييف النظريات مع معطيات الواقع الملموس، من خلال التفاعل المستمر مع المجتمع المحلي، والوعي بالتعقيدات الثقافية التاريخية، شرطاً أساسياً لنجاح أي عملية بناء للدولة. فالتجارب التاريخية تؤكد أن الدول القادرة على تجاوز هشاشتها، حتى بعد مراحل الانقسام العميقة، هي تلك التي دمجت التجريب الميداني مع التفكير الاستراتيجي، واستخدمت المرحلية والتدرُّج بشكلٍ مدروس، وامتلكت شجاعة الاعتراف بالأخطاء وتصحيحها في سياقٍ من ذلك الإصلاح التدريجي.
من كل ما سبق، تتضح لنا حقيقةٌ جوهرية: إن الهشاشة الظاهرة للدولة ليست بالضرورة نهايةً، بل قد تكون، حين تُدار بحكمة ومرونة فكرية، نقطة انطلاق لتأسيس دولة أكثر رسوخاً وشرعية. فالمفتاح يكمن في امتلاك القيادة القدرة على الابتكار والتعلم، والاستفادة من التجارب الناجحة القريبة والبعيدة، وممارسة نقدٍ ذاتي متواصل يضمن التوازن بين تطلعات النظرية وحقائق الواقع.
رابعاً: غياب مفهوم الدولة بوصفها كياناً موضوعياً مستقلاً
تغيبُ، في النص الذي ننقده، الدولةُ كمؤسَّسة، ويُختزَل كل شيء في «السلطة» و«الخطاب»! وبالتالي، نكون محكومين بعملية إلغاء مُسبَقة، يمارسها الباحث على القراء ربما بغير قصد، حيث:
– لا ذكر لنشوء طبقات بيروقراطية جديدة، أو محاولات بناء شبكات إدارية، مدنية-مهنية، ولو جزئياً.
– لا نقاش عن «التعاقد الاجتماعي» كمفهوم أساسي لشرعية الدولة المعاصرة.
– لا تحليل للبُعد الاقتصادي أو الاجتماعي كشرطٍ لوجود الدولة.
وهذا يضع النص في تناقض مع أدبيات ماكس فيبر وفوكوياما حول ضرورة الشرعية البيروقراطية/القانونية كأساس لمشروعية الدولة (إلى جانب الشرعية الرمزية).
خامساً: النظرة الأُحادية للتاريخ والدولة
ينطلق النص من فرضية «السلطة الجديدة = استبدال إيديولوجي» لا أكثر، ويُهمل سيناريوهات أخرى ممكنة، يطول الحديث في شرحها، لكننا نُوردها بشكلٍ سريع للإحاطة، مثل:
– تَحوُّلُ الهياكل الهشَّة إلى أساس لنشوء دولةٍ بِسِماتٍ جديدة (كما حدث جزئياً في البلقان بعد اتفاقية دايتون).
– تَشكُّلُ تسويات محلية-إقليمية، تُعيد بناء مركز قرار وطني تدريجياً.
– دور العامل الإقليمي والدولي فيما يمكن اعتباره عملية (فرض)، غير مباشرة، لإصلاحات إدارية/سياسية على «السلطة الانتقالية»، وبشكلٍ يستفيد من نجاح تجارب أخرى، أو ربما فشلها، كما هو الحال مع التجربة العراقية.
سادساً: جمود المنهجية وتحجيمها لاحتمالات المستقبل
ثمة ضرورةٌ لأن يدرك أي باحث، وهو يخوض غمار الظاهرة السورية الراهنة، أنه يتعامل مع كيانٍ حي، لا يقتصر على كونه مُتحرِّكاً فحسب، بل إن حركته تتصف بسرعةٍ غير مسبوقة في سياق المنطقة والعالم، وهو أمرٌ أضحى محل إجماعٍ ثقافي وسياسي واسع. فالحركة هنا ليست مجرد انتقال آني من مشهد إلى آخر، بل إنها أقربُ لأن تكون اندفاعاً متسارعاً يحفل بما هو غير مألوف وغير مُتوقَّع، خصوصاً في علاقته بخطوات الأمس القريب، سواء من حيث المفاهيم الثقافية أو الممارسات المؤسسية. وهذا الاندفاع التاريخي يفتح، من الناحية العلمية، احتمالاتٍ لنشوء مفاجآت نوعية قد تنسف جذرياً الرؤية التحليلية التي صاغها الباحث في ورقته، بل ربما تضع كامل الإطار النظري الذي يتكئ عليه قيد المراجعة القاسية.
ومع ذلك، لا يترك النص المطروح أيَّ فسحةٍ منهجية أو علمية لهذه الإمكانية الطبيعية، التي يُعَدُّ أخذُها بعين الاعتبار في مناهج البحث ضرورةً لا ترفاً. بل يُصِرُّ، منذ بدايته وحتى نهايته، على أسر الظاهرة السورية ودولتها المأمولة ضمن ثنائيةٍ حادة: فإما العودة، عملياً، لعقلية وممارسات وواقع نظامَي الأسد، بأسماء ومصطلحات جديدة، أو تجميدُ تلك الظاهرة في فراغٍ عقائدي باهت يجمع بين الحنين السلفي والضياع العبثي في مظاهر الحداثة. بهذه الرؤية الأُحادية، يُغلق النص على نفسه باب التطورات المستقبلية، فلا يعترف بإمكانية ولادة دولة جديدة من داخل هذا المخاض المتسارع، ولا يمنح القارئ فرصة لاستيعاب ما قد يحمله الغد من مفاجآت، بقدر ما يكتفي بترديد مخاوفه المسبقة بلغة متماسكة، لكنها منغلقة على نفسها.
بتلخيصٍ واختصار. نحن أمام نص غني لغوياً، لكنه يُظهر انحيازاً ثقافوياً واضحاً يعوقه عن تقديم تحليل متكامل وموضوعي لعملية بناء الدولة السورية في زمن التحولات الدولية الكبرى. نصٌّ يَفترِضُ مُسبَقاً أن السلطة الجديدة في سوريا محكومةٌ فقط بنمطٍ دينيٍ-دعوي، دون أن يأخذ في اعتباره العناصر الاقتصادية والإدارية والاجتماعية الأساسية في بناء الدولة المعاصرة. ويختزل الدولة في «السلطة الرمزية» و«الهشاشة» دون أي نقاش جاد لمقومات الدولة الحديثة: السيادة، احتكار العنف المشروع، تقديم الخدمات، العقد الاجتماعي. ويتجاهل تماماً البُعد الاقتصادي والاجتماعي (الإنتاج، الموارد، الإعمار، الاستثمار…) كشرط موضوعي لبناء الدولة. ولا يُعطي مجالاً لتحليلٍ موضوعي يتعلق بتأثير المتغيرات الإقليمية والدولية أو تسويات ما بعد الحرب. ويُغلق نفسه على باب التطورات المستقبلية، فلا يعترف بإمكانية ولادة دولة جديدة من داخل هذا المَخاض المتسارع، ولا يمنح القارئ فرصة لاستيعاب ما قد يحمله الغد من مفاجآت. وهكذا، نجد أنفسنا إزاء نصٍ يفتقد ما يُسمى التَعدُّدَ المنهجي (Methodological Pluralism)، الذي يجعل التحليل السياسي موضوعياً وواقعياً.
كل ذلك، يجعل النص، رغم ثرائه اللغوي، أقرب إلى مقالٍ تأمليٍ أدبي منه إلى تحليل علمي منهجي يقرأ الظاهرة السورية بكامل أبعادها السياسية والاجتماعية، والاقتصادية. ثم إن النص، وكل نصٍّ مثله، يذكرنا في النهاية بأن الباحث في الشأن السوري اليوم، لا يحتاج فقط إلى أدوات تحليل حديثة، بل إلى جهدٍ مضاعف من النقد الذاتي، كي لا تتحول «أدواته» إلى مرايا لرغباته، بدلاً من أن تكون نوافذ تُطلُّ على الواقع كما هو. لأن الحقيقة، في النهاية، ليست ما نتمناه، بل ما نملك العدّة الكافية لاكتشافه… كما هو.
مقالات مشابهة