قبل كل شيء يشير إعلان موافقة الإدارة الأمريكية على ضم الجهاديين الأجانب في سوريا إلى جيش حكومة أحمد الشرع إلى مدى الرهان الأمريكي عليها في إطار «الشرق الأوسط الجديد» في التصور الاستراتيجي للمنطقة. فلم يمض إلا وقت قصير على اللقاء الذي جمع ترامب إلى الشرع في الرياض بحضور ولي العهد السعودي حيث طالب الأول الثاني بالتخلص من أولئك الجهاديين. وبعد أشهر من التردد بشأن السياسة التي ينبغي اتباعها في سوريا، والانقسام بشأنها داخل الإدارة الأمريكية، غلبت الوجهة التي ترى في سوريا استثماراً سياسياً رابحاً يمكن التعويل عليه والعمل لتوفير شروطه، وأولها رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا في عهدي الأسدين الأب والابن. في هذا «التكويع» الأمريكي، إذا استخدمنا التعبير الشائع في سوريا ما بعد الأسد، ابتعاد عن ثوابت إيديولوجية ترسخت خلال عقود كالحرب على الإرهاب والدفاع عن القيم الديمقراطية، لمصلحة سياسة براغماتية قائمة على عقلية الربح وفقاً لما هو رائج عن أقوى الحوافز وراء سياسات ترامب «العقارية» كما سماها البعض. غير أن «الاستثمار» الأمريكي في سوريا يتجاوز مردوده المادي المحتمل إلى مردود سياسي ذي طابع استراتيجي يمكن وضع عنوان عريض له بوصفه نقلاً لسوريا من المحور الروسي ـ الصيني ـ الإيراني إلى المحور الغربي، ومن فوائده المتحققة فعلاً طرد إيران من سوريا، في حين أن ضماً محتملاً لسوريا إلى معاهدات أبراهام من شأنه أن يغير وجه الإقليم بكامله، الأمر الذي لا نعرف مدى استعداد إدارة الشرع للانخراط فيه.
من المحتمل أن أكثر ما شجع ترامب على هذا الانفتاح الواسع على إدارة الشرع هو التوجه الاقتصادي المعلن في تصورها لسوريا المستقبل، وهو توجه ليبرالي جديد عولمي على نموذج ما سمي بـ«النمور الآسيوية» يقلص تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي إلى ما يقارب الصفر. هذا النموذج الذي ترافق فيه النمو السريع مع مآسٍ اجتماعية مرعبة لا يمكن تصور تطبيقه في بلد خارج لتوه من حرب مدمرة، كحال سوريا، بدون نشوء طبقة محاسيب قد تشكل بعض بطانة نظام الأسد المخلوع قسماً منها (على غرار ما حدث في روسيا يلتسين بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار النظام الشيوعي) في حين يتشكل قسم آخر من أمراء الحرب من قادة فصائل المعارضة بما في ذلك هيئة تحرير الشام ومحاسيبهم من المنتفعين من سقوط نظام الأسد. هذا النموذج مما يغري الإدارة الأمريكية كوجهة للاستثمار والتجارة، إضافة إلى الاستثمار السياسي المشار إليه فوق.
الحل الأفضل لهم هو تفكيك فصائلهم بصورة تدريجية وتحويلهم إلى مدنيين مع منحهم صفة اللاجئين، ومحاسبة من تورط منهم في انتهاكات ضد المدنيين في إطار محاسبة السوريين
ومن جهة إدارة الشرع التي قاومت الطلبات الأمريكية والأوروبية بشأن وجوب التخلص من الجهاديين، فقد ظفرت بما أرادت من تجنب الحرج تجاههم بعدما شاركوا هيئة تحرير الشام في مقاومة نظام الأسد وصولاً إلى الإطاحة به. ومن جهة ثانية إن من شأن ضمهم إلى الجيش الذي يجري تشكيله تجنب خوض معركة مكلفة ضدهم أو اتقاء لما يمكن أن يشكلوه من خطر جدي على السلطة الجديدة الهشة.
انقسم السوريون في ردود فعلهم على هذا التطور، فثمة من برروا ضم الجهاديين (وأغلبهم من الأيغور الصينيين) اتساقاً مع تبريرهم الدائم لكل ما يصدر عن السلطة الجديدة حتى لو تناقضت هذه مع نفسها بين قرار وضده في يومين متتاليين. في حين هاجمه آخرون على جري عادتهم في الهجوم على كل ما يصدر عن السلطة القائمة، بصرف النظر عن أي سياق أو شروط.
الواقع أنه لا شيء يبرر تمييز الجهاديين الأجانب عن إخوانهم السوريين من حيث الإيديولوجيا التي يتبنونها وما يمكن أن ينعكس منها على مسالكهم اليومية وخطرهم على السلم الأهلي. صحيح أنه شاع عن هؤلاء الأجانب أنهم أكثر من مارس القتل على الهوية في منطقة الساحل ضد العلويين في شهر آذار الماضي، ولكن لم تبرئ التقارير الإعلامية الجهاديين المحليين أيضاً من تلك الجرائم، وكذلك بعض فصائل الشمال من خارج التصنيف السلفي الجهادي، وحتى مدنيين ممن لبوا النداء إلى النفير العام. بهذا المعنى لم يشكل الجهاديون الأجانب خطراً على السلم الأهلي لأنهم أجانب، بل بسبب دوافع أيديولوجية متشددة ونزوع طائفي يشتركون فيهما مع سوريين يشبهونهم. هذا ليس للتقليل من خطرهم بل للإشارة إلى الخطر الأوسع الذي يضمهم مع سوريين. إن تشكيل الجيش السوري الجديد من الفصائل الجهادية وغير الجهادية بدون التخلي عن الإطار الإيديولوجي لمصلحة عقيدة دولة وطنية هو بذاته خطر على مستقبل سوريا الذي يتم رسمه من قبل مجموعة صغيرة من الثقاة بعيداً عن أي مشاركة من السوريين بكافة انتماءاتهم الفرعية ومشاربهم المتنوعة.
أضف إلى ذلك أن طرد هؤلاء الأجانب هو أمر متعذر عملياً، فبلدانهم الأصلية لا تريدهم، وقد يكون الحل الأفضل لهم هو تفكيك فصائلهم بصورة تدريجية وتحويلهم إلى مدنيين مع منحهم صفة اللاجئين، ومحاسبة من تورط منهم في انتهاكات ضد المدنيين في إطار محاسبة السوريين أيضاً. هذا ما لا يبدو أن إدارة الشرع بصدد القيام به.
كاتب سوري