الطريق إلى الله بسيط جداً ولا يحتاج إلى تعقيد ولغو زائد وخطابات سياسية وأيديولوجية (أ ف ب)

“ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة”، هي ليست مجرد حكاية غريبة، إنها حكاية شعبية لا تموت ودلالاتها فلسفية بليغة وخالدة، وهي خلاصة العبقرية  الشعبية الجزئزاية وعصارة حكمة الأجداد الصاعدة من التجربة الجماعية ومن شقاء الهوية ومفهوم التدين والاستثمار فيه عبر التاريخ.

هي حكاية معروفة في الجزائر  وشمال أفريقيا بعامة، يرويها السكان الأصليون الأمازيغ ولاحقاً أصبحت على كل لسان، لأنها أبعد من هوية أو قومية أو لغة أو دين، لأن فيها كثيراً من التأويل والدرس.

“ممونة تَسَّنْ ربي، ربي يَسَّنْ مامونة”، بهذه اللغة الأصلية كانت الجدات والأمهات تحكيها للأجيال الصاعدة، وتقول الحكاية إنه كانت هناك امرأة متصوفة اسمها “لالة ميمونة” أو “لالة مامونة” كما ينطقها الأمازيغ، ذاع صيتها بين الخاص والعام كامرأة صلاح وتقوى وعمل الخير والسلوك الحسن، امرأة مثابرة على صلاتها تقيمها ليلاً ونهاراً.

ولأن لاله ميمونه ” الأمازيغية لم تكن تعرف كيف تقام الصلاة بالعربية، فلسانها أمازيغي ولم يسبق لها أن تعلمت اللغة العربية، ولكن قلبها كان مليئاً بالخير وعامراً بتقوى الله وحب الجميع من دون تمييز، فكانت حين تصلي تتوجه إلى الله بعبارة واحدة تكررها طوال صلاتها بخشوع إلى الله عز وجل، وهي “ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة”، تقولها طبعاً في لغتها الأصلية الأمازيغية: “مامونة تَسَّنْ ربي، ربي يَسَّنْ مامونة”.

وإذا ما ضرب القرية جفاف قامت “لالة ميمونة” إلى ربها فصلت خاشعة له قائلة “ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة”، “مامونة تَسَّنْ ربي، ربي يَسَّنْ مامونة”، وعلى التو تسير أسراب الغيوم في السماء محملة بالماء فينزل المطر ويفرح الفلاحون وتكثر الغلال.

وإذا ما أصاب أحد أبناء أو بنات القرية ضر أو مصيبة جاءها شاكياً حاله، وعلى الفور تختلي إلى ربها وتصلي صلاتها بعمق وخشوع مرددة عبارتها الوحيدة المعتادة “ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة”، “مامونة تَسَّنْ ربي، ربي يَسَّنْ مامونة”، فيستجيب لها الله وفي اليوم التالي يقوم المريض من سريره ويعود لحياته الخاصة الطبيعية.

وإذا ما تألمت امرأة من فراق زوجها وطال غيابه، وما أكثر رجال القرية الذين كانوا يهاجرون فيغيبون لأشهر بل لأعوام بحثاً عن عمل، فالأرض جرداء والحال ضيقة، إلا وجاءتها تشكو لوعتها ونار فراقها وحرقة الانتظار، تقوم “لالة ميمونة” إلى ركنها وتصلي صلاتها لربها قائلة “ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة”، “مامونة تِسَّنْ ربي، ربي يَسَّنْ مامونة”، فيستجيب السماء لدعائها وتردم هوة الفراق بين الحبيبين أو الزوجين ولا يتأخر الرجل في أن يدق باب العودة.

 

وذات مساء وصل القرية رجل غريب فاستقبله الأهالي بالترحاب، وإذ علمت بحلول الغريب على الديار طلبت “لالة ميمونة” أن تُحسن ضيافته ووفادته، وأن يكرم ويمنح ما يحتاج إليه لمواصلة طريقه بأمان وأمن.

حدث الأهالي الغريب عن “لالة ميمونة” وبركتها وخشوعها لله وكثرة صلاتها واستجابة السماء لدعواتها، فطلب هذا الأخير على الفور لقاءها وهو رجل علم وفقه وأدب كما يبدو من حديثه ومن لباسه أيضاً، فوافقت على استقبال الغريب معتقدة بأنه جاءها لطلب مساعدة أو سعياً إلى كرامتها وبركتها، وحين دخل عليها غرفتها وهي في عزلتها الصوفية كما عادتها وجدها تصلي رافعة كفيها متذرعة إلى الله مرددة عبارتها “ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة”، “مامونة تَسَّنْ ربي، ربي يَسَّنْ مامونة”، فاستغرب الغريب طريقة صلاتها، وحين انتهت منها رحبت به وقدم نفسه لها على أنه رجل علم وعارف بالفقه، وعلى الفور بادرها قائلاً يا “لالة ميمونة” إنك تؤدين الصلاة على غير أصولها، صلاتك غير صحيحة، وعليه فهي ليست مقبولة عند الله، وبهذه الطريقة لا يمكنها أن تكون في ميزان حسناتك.

نظرت بحيرة إلى الغريب قائلة بينها وبين نفسها “كيف يمكن لصلواتي أن تكون فاسدة وغير مقبولة وأنا التي كلما أقمت صلاة ودعوت الله لأمر استجاب لدعوتي؟ وما هي طريقة الصلاة الصحيحة أيها الغريب؟

جلس الغريب إلى جانبها وشرع في تعليمها طريقة الصلاة العادية، وكانت تردد من خلفه ما يجب أن يقال بالعربية عند الوقوف للصلاة، وأخيراً حفظت “لالة ميمونة” ما عليها أن تقوله عند كل صلاة، فقام الغريب معتذراً قائلاً “عليّ أن أرحل قبل سقوط الليل، فأمامي طريق طويل علي أن أقطعه بغاباته وجباله، فادعي لي يا سيدتي بالسلامة، فدعواتك مستجابة كما يقول أهل قريتك.”

غادر الغريب القرية وعادت “لالة ميمونة” لعزلتها في غرفتها، وحين حل موعد الصلاة قامت لأدائها، وإذ رفعت ذراعيها للسماء نسيت ما علمه إياها الغريب في لغته فاحتارت، ما العمل؟ ثم حاولت أن تسترجع طريقة صلاتها الأصلية فنسيت عبارتها المعتادة التي كانت تصلي بها “ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة”، “مامونة تَسَّنْ ربي، ربي يَسَّنْ مامونة”.

غاضبة لم تجد وهي بين يد الله وقد ضاع منها لسانها سوى أن ترسل دعوة على الغريب قائلة “يا ربي كما ضيّع صلاتي وأخلطها، ضيِّعْ طريقه واخلطها عليه.”

انتبه الغريب فوجد نفسه يدور في الغابة وقد تاه وضاع منه طريقه، وعلى الفور أدرك بأن “لالة ميمونة” تكون قد دعت عليه، وبعد أن تعب في البحث عن مخرج من الغابة عاد أدراجه نحو القرية للاستفسار، وعلى الفور أدخل إلى غرفة “لالة ميمونة” التي استقبلته بغضب وحيرة قائلة “لقد ضيعت صلاتي فضيعت طريقك”.

جلس إلى جوارها وحاول أن يساعدها في استرجاع عبارة صلاتها القديمة، وبعد لأي استرجعتها وقامت إلى صلاتها مرددة سعيدة “ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة”، “مامونة تِسَّنْ ربي، ربي يَسَّنْ مامونة”، وأكمل الغريب طريقه سعيداً هو الآخر بأن عرف اتجاهه وهو يقطع الغابة.

هكذا انتهت حكاية ميمونة لكن فصولها ومغزاها لا يزال مستمراً في واقعنا حتى اليوم، فالله لا يفضل لغة عن أخرى ولا يحتاج إلى لغة كي يخاطبه العباد بها، فهو يعرف جميع اللغات ويعرف اللا لغات، وأكثر من ذلك هو يعرف البشر ويدرك عمقهم حتى من دون لغة، ويفهمهم في الصمت وفي اللغو وفي اللغة وفي الحركة.

تعلمنا حكاية “ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة” “مامونة تِسَّنْ ربي، ربي يَسَّنْ مامونة” بأن الطريق إلى الله بسيط جداً ولا يحتاج إلى تعقيد ولغو زائد وخطابات سياسية وأيديولوجية، وتعلمنا حكاية “ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة”، “مامونة تِسَّنْ ربي، ربي يَسَّنْ مامونة” بأن الذين جاءوا بالإسلام السياسي إلى بلادنا وإلى بلدان كثيرة أخرى أرادوا أن يفصلونا عن الطرق والأساليب التي كان الأجداد يمارسون بها الإسلام على هذه الأرض، إسلام السلام والمحبة، إسلام البساطة، إسلام الصدق مع الله ومع العباد، وتعويضه بإسلام آخر قائم على المظاهر والخطب والثرثرة، إسلام مفرغ من العمق الروحي وعامر بالأيديولوجيا، إسلام اختصروه في أحزاب سياسية والدخول إليه يكون من طريق بطاقة انتماء لهذا الحزب أو ذاك، ومن طريق أداء الولاء للزعيم الذي أصبح يحتل عرش الله تبارك وتعالى.