ملخص
قبل أيام أطلقت قذائف على إسرائيل من الجنوب السوري تبنتها مجموعة تطلق على نفسها “كتائب القائد محمد الضيف”، ولم تحدث العملية أثراً عسكرياً يذكر لكنها فجرت أسئلة كثيرة حول دلالتها، فهل هي رسائل من أحمد الشرع لتل أبيب؟ أم أنها محاولات لتوريطه في حرب قد تأتي على محاولات بناء الدولة السورية الجديدة؟
منذ الإطاحة بنظام الأسد قبل ستة أشهر تعمل القيادة الجديدة في دمشق على تحييد سوريا عن أي صراع في الشرق الأوسط والعالم، كما أكدت مراراً أن أراضي سوريا لن تكون منطلقاً للاعتداء على أية دولة في المنطقة، بما فيها إسرائيل.
وقبل أيام عكر صفو هذا الحياد قذيفتان أطلقتا من درعا جنوب البلاد باتجاه هضبة الجولان المحتلة، فردت إسرائيل بغارات استهدفت أسلحة تابعة للدولة السورية، وقالت إن دمشق “ستتحمل عواقب الأنشطة العدائية التي تنطلق من أراضي سوريا”.
ودانت البيانات الرسمية الصادرة من حكومة الرئيس أحمد الشرع الغارات الإسرائيلية وقالت إنها لا تزال تحقق في مصدر القذائف ومطلقيها من الأراضي السورية، وقبل أن تعلن نتائج التحقيق تناقلت وسائل الإعلام خبر تبني العملية من قبل مجموعة مسلحة جديدة تسمي نفسها “كتائب محمد الضيف”، لم يدلل عليها إلا حساب على منصة “تيليغرام”.
والفصيل الجديد، وفق بيان تأسيسه، أطلق في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو كما يقول البيان “ليس حزباً ولا تنظيماً وإنما فعلاً ثورياً”، وعند ربط البيان بـ “عملية درعا” نصل إلى نتيجة مفادها أن هؤلاء إما أنهم يؤسسون لجبهة مقاومة جديدة ضد إسرائيل جنوب سوريا، أو أنه فعل عابر ينطوي على رسائل سياسية لا مخططات بعيدة المدى.
ويدرك الرئيس أحمد الشرع أخطار الخصومة مع تل أبيب حالياً، بخاصة أن الدولة السورية الجديدة لا تمتلك جيشاً ولا تتمتع بجبهة داخلية صلبة ولا تنعم باستقرار اقتصادي ولا تستند إلى علاقات خارجية كفيلة بدعم موقفها في أية مواجهة مع إسرائيل التي تحتل الجولان منذ خمسة عقود، ووسعت مناطق نفوذها داخل الأراضي السورية بعد سقوط الأسد.
وتفترض هذه المعطيات أن مصلحة الشرع تكمن في هدوء الجبهة مع إسرائيل وحياد سوريا تجاه الحرب المستمرة على قطاع غزة منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الثاني) 2023، ومما يعزز هذه الفرضية هو رغبة الشرع في التقارب مع الولايات المتحدة التي لا تساوم على أمن إسرائيل ولا ترغب في وجود الفصائل الفلسطينية في سوريا وإن بقيت ساكنة، وعندما التقى الشرع الرئيس دونالد ترمب قبل ثلاثة أسابيع طلب منه إزاحة الفصائل الفلسطينية في سوريا عن المشهد تماماً، ويشاع أن هذا المطلب الأميركي وصل الشرع قبل لقاء الرياض، وعلى إثره جرت اعتقالات بحق عدد من قادة هذه الفصائل ودفعت بآخرين إلى مغادرة البلاد والتوجه إلى دول من بينها لبنان، وفق وكالة الصحافة الفرنسية.
الجيش الإسرائيلي يشن هجوما على جنوب سوريا ردا على إطلاق صاروخين
وهذه الخطوات تجعل من إطلاق “كتائب الضيف” وعمليتها في درعا تبدو وكأنها رد فعل فلسطيني على موقف الشرع، ولكن هنا يجب البحث عن ارتباطات الفصيل الجديد، لأن النشاط المسلح مهما بدا صغيراً يحتاج إلى الدعم بالمال والسلاح، وأول الدول التي يشتبه فيها في هذا المكان هي إيران التي تقدم نفسها كراعية لـ “المقاومة ضد الصهيونية”.
وتتلخص مصلحة إيران من فتح جبهة ضد إسرائيل في الجنوب السوري فقط في رغبتها بالانتقام من الشرع وحكومته لطردها وإنهاء هيمنتها على سوريا، وبالتالي يمكن القول إن قادة طهران لن يرغبوا في استقرار دولة كانوا يصادرون قرارها، وأنفقوا على نفوذهم فيها خلال عقد ونصف عشرات مليارات الدولارات، ثم خرجوا منها بـ “خفي حنين” كما يقال.
ويصعب العثور على دولة غير إيران في المنطقة تدعم فصيلاً مسلحاً يرفع شعار الحرب على إسرائيل في سوريا، فغالبية دول المنطقة والجوار العربي تبحث عن استقرار دمشق وتساند خطط حكومتها الجديدة في مختلف المجالات، وإذا وجد خيار آخر غير إيران، فإما أن يكون تابعاً لطهران أو يرغب في تقديم خدمة لها عن جهل أو لغاية في نفسه، وإذا أخرجنا إيران من مشروع “كتائب الضيف” فنحن أمام احتمال النشاط الفردي الناقم على إسرائيل بسبب حرب غزة، ومع حال الفراغ الأمني التي يعيشها الجنوب السوري بعد سقوط الأسد بسبب إصرار تل أبيب على خلوه من المظاهر العسكرية، فلن يكون مستحيلاً أن يتسلل أشخاص بقاذفات يدوية تحمل على الكتف أو تزرع بسرعة على الأرض.
ويبدو الأمر جذاباً لفئة من السوريين الذين لا يمانعون الحرب مع إسرائيل ويعتقدون أن إشعال جبهة معها كفيل بوقف اعتداءاتها المستمرة على بلادهم، ومن بين هؤلاء حسين الشرع، والد الرئيس السوري، وقد كتب على موقع “فيسبوك” منشوراً يحذر فيه إسرائيل من “غضب العاقل والحكيم الذي له أرض محتلة منذ زمن ولا بد من تحريرها”.
وليس الحصول على الأسلحة اليدوية والخفيفة، مثل التي اُستهدفت فيها إسرائيل من درعا، أمراً صعباً في ظل عدم سيطرة الدولة السورية على كامل حدودها لأسباب داخلية وخارجية، وقد جُربت القاذفات والقواعد الصاروخية البدائية في جنوب لبنان مرات عدة عبر الفصائل الفلسطينية هناك مع بداية حرب غزة، بهدف تقليل ضغط إسرائيل على حركة “حماس”.
وقد كان رد فعل تل أبيب على القذائف التي أطلقت من جنوب لبنان، على رغم أن غالبيتها لم تحدث ضرراً كبيراً، عنيفاً جداًَ وأدى في نهاية المطاف إلى تصفية قادة الحزب وتدمير معظم قدراته البشرية والتسليحية والمالية، إضافة إلى إخلاء إسرائيل للقرى والبلدات اللبنانية القريبة من حدودها، وتحويل جنوب نهر الليطاني إلى منطقة عمليات عسكرية.
كلفة الخصومة مع إسرائيل في هذا الوقت بات يعرفها الجميع، ومع استمرار الدعم الأميركي غير المحدود لها فلن يغامر الشرع بإيصال رسائل سياسية إلى تل أبيب على ظهر قذيفة مهما بدا الأمر مرضياً للشارع المتأثر بحرب غزة، أما إذا كان المرسل غير سوريا فالاستفادة من تجارب الغير والتعلم من أخطائهم ضرورة ملحة جداً لدمشق.