لن يُكتب تاريخ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 في دفاتر فلسطين وحدها؛ بل إنه قد يكون لحظة انطلاق تغيير كوني. ليس فقط لأن مشهد المذبحة والدمار بلغ أقصى درجات الوحشية، بل لأن هذه اللحظة فتحت في العالم صدعًا لم يكن محسوبًا: صدعًا في الضمير، في الخطاب، في الأسواق، في السياسة، في الشارع، وفي الوعي الجماعي. منذ تلك اللحظة، صارت فلسطين مرآة الكوكب، كل إنسان في العالم يُسأل عن موقعه: مع مَن؟ لأجل ماذا ومن؟
لم يعد ممكنًا للاعتدال الزائف أن يغطي صمت الجريمة. ولم يعد ممكنًا للحياد المراوغ أن يعفي الشهود من مسؤوليتهم. انكشفت وجوه الدول، وارتبكت لغة الحكومات، وسقطت الأقنعة المُحاكة بتعابير زائفة عن الديمقراطية والعدالة والقيم الإنسانية. تحطّمَ سياج الإعلام الرسمي أمام هدير صوتِ الحقيقة القادم من فلسطين، والجرحِ النازف في غزة، وأمام فيض وسائل التواصل، التي فجّرت الصورة إلى حدود لا يمكن ضبطها أو حصارها أو التحكم بها.
منذ السابع من أكتوبر، لا يشهد العالم عدوانًا عسكريًا إباديًا فحسب؛ هذه رؤية أحادية للواقع العالمي، تسقِط من اعتبارها أننا نشهد أيضًا مرحلة انتقال تاريخية، يُعاد فيها تعريف موقع فلسطين في النظام الكوني، كبلد مستعمَر وشعب يرزح تحت آلة المحو. كما يعاد فيها أيضًا تعريف إسرائيل؛ من اعتبارها “دولة طبيعية” إلى اعتبارها كيانًا استعماريًا قائمًا على الإبادة والتطهير العرقي، يستند إلى أيديولوجيا راسخة تجرّد الفلسطيني لا من أرضه وهويته فحسب، بل من إنسانيته أولًا. هذه مرحلة لا تقتصر على صراع بين مستعمِر ومستعمَر، بل يعاد فيها تعريف موقع كل دولة، وجماعة، وفرد، أمام فلسطين.
انتفاضة اللامركز والوجهة واحدة
ليست هذه الانتفاضة مثل الانتفاضات التي عرفها التاريخ؛ فهي ليست ثورة شعبٍ في جغرافيا قومية محددة، ضد استعمار يحتل بلاده، أو ضد نظام استبدادي. كما أنها ليست حراكًا أشعلته مكاتب الأحزاب، ولا انقلابًا جرى بقرارات عسكرية. إنها ببساطة: انتفاضة يقودها أحرار العالم، الذين وقفوا أمام ضمائرهم ومراياهم، إذ لم يكن بإمكانهم غض النظر عن المقتلة، أيقظهم السابع من أكتوبر، وما تبعه من عدوان وحشي، ليبحثوا، ويناقشوا، وليدركوا الحقيقة: في فلسطين، لا يبدأ التاريخ منذ السابع من أكتوبر.
هذه إحدى الأفكار الرئيسة التي يؤكدها النشطاء والمحتجّون في العالم، في حربهم ضد السردية الصهيونية، التي تشرعن عدوانها الإبادي على غزة تحت شعار “حق الدفاع عن النفس”. ليجابهها الوعي الجماعي بأن المسألة ليست في السابع من أكتوبر، بل فيما قبله، وتحديدًا منذ عام 1948، حين قامت إسرائيل ككيان استعماري على أرض فلسطين، ومارست الإبادة والتطهير العرقي على مدار عقود. هنا، وعبر هذا المبدأ (لم يبدأ التاريخ في السابع من أكتوبر، بل في عام 1948)، لا يقوم الوعي الجماعي بمحاربة السردية الصهيونية، بل بإسقاطها تمامًا، عبر ردّ صاحبها إلى هويته الأصلية: استعمار وحشي يتلبّس دور الضحية.
قيادة هذه الانتفاضة غير مرئية، لكنها محسوسة؛ فهي غير محددة في شخوص قيادية أو رموز ثورية، كما هي الحال في الثورات والانتفاضات. هي قيادة موزعة في بلدان الشرق والغرب، تنشط في ميادين شتى، شعبية وميدانية، وثقافية وفنية، وأكاديمية، وقانونية. ولكنها انتفاضة موحدة في شعارها ووجهتها: الحرية لفلسطين. وتحت هذا الشعار تندرج شعارات ومطالب أخرى، من بينها: شعار “من البحر إلى النهر”، في إشارة إلى حدود فلسطين التاريخية ومطلب تحريرها الكامل من الاحتلال، إضافة إلى مطالب المقاطعة، بمختلف أشكالها، وحظر بيع السلاح، ومحاكمة إسرائيل بجرائم ضد الإنسانية.
رسالةٌ واضحةٌ للاحتلال: العالم يتغير، وحصانة الإفلات من العقاب تتآكل
ليست هذه الانتفاضة العالمية عابرة ولا هي انتفاضة نخبة محدودة؛ إنها ثورة متعددة الوجوه، متعددة الأصوات، ومتعددة الأمكنة. تشمل طلبة جامعات يعتصمون في ساحات العلم، وأكاديميين يكتبون بيانات تنزع أقنعة الكذب، وفنانين يرسمون وجع غزة على الجدران. تشمل مثقفين يفضحون الاستعمار في الكتب والمقالات، وإعلاميين يعيدون صياغة الرواية والخطاب. إنها انتفاضة تحملها أعراق شتّى، من الشرق ومن الغرب، من الشمال ومن الجنوب، لكنها لا تتشتت ولا تتوه: بوصلتها واحدة، ووجهتها واحدة: حرية الشعب الفلسطيني من الاستعمار، وكشف قبح هذا الاحتلال أمام أعين العالم والوعي، حتى ينكسر القيد وينهار الجدار.
“هذه انتفاضة كونية تصيغ وعيًا عابرًا للقارات، يستند إلى مرويّة أصحاب الأرض، يصارع سردية المستعمِر، يكشف عقودًا من تزييف الحقائق وتضليل البشرية”
وانتفاضة لا تدور حول زعيم، لا يُقطع رأسها. كما أنها انتفاضة لا تنحصر في حدود، لا يمكن محاصرتها. إنها انتفاضة كونية، تصيغ وعيًا عابرًا للقارات، يستند إلى مرويّة أصحاب الأرض، يصارع سردية المستعمِر، يكشف عقودًا من تزييف الحقائق وتضليل البشرية. وعي يرفض الخداع، ويرفض أن يكون عاجزًا أمام شاشات البث المباشر لحرق الأطفال وذبح شعبٍ
جائع أعزل.
هذا الوعي الجماعي، يرفض إهانته التي يشهدها يوميًا على الشاشات في صور الإذلال الممنهج للفلسطيني: أطفال يحملون أوعية علّهم يحصلون على ما يسدّ رمقهم في غزة المدمّرة المحاصرة، ومعتقلون عراة بدت على أجسادهم آثار التعذيب، وشبان في الضفة الغربية ينكَّل بهم. إنها انتفاضة تنطلق من التماهي بين إنسان العالم والفلسطيني؛ هذا ما يكرره الناشطون على صفحاتهم، والشعراء في محافلهم، والمتظاهرون في ميادينهم: لن نتحرر ما لم تتحرر فلسطين، في إشارة، إلى أن الإبادة، والإبادة الرمزية، هي نهج موجّه لا إلى غزة أو الشعب الفلسطيني فحسب، بل ضد البشرية برمّتها وقيَمَها الإنسانية.
أثر الفراشات
ليست هذه الانتفاضة العالمية مجرد احتجاجات رمزية؛ إنها تنطلق من وعي عميق بالقضية الفلسطينية، بدأ منذ ما قبل السابع من أكتوبر، لتتسع دائرته ويتراكم سريعًا بعد هذا التاريخ. يستند هذا الوعي إلى مبادئ أبرزها: رفض الوجود الاستعماري، والمفاهيمِ العنصرية، وتجريدِ الإنسان من إنسانيته. ويتمثل جزء جوهري من هذه الانتفاضة العالمية في رفض الشعوب لأن تكون شريكة في الإبادة، لا بالصمت ولا بالتواطؤ غير المباشر؛ لقد بدأ النشطاء، من شوارع برلين إلى ساحات نيويورك، يرفعون أصواتهم أمام المسؤولين: أنتم تأخذون ضرائبنا لتُسفك بها دماء أطفال غزة؛ أنتم تجعلوننا مموِّلين قسرًا لجرائم حرب، شركاء في آلة استعمارية لا نريدها ولا نمثّلها.
هذا الرفض العلني هو تمزيق لعقد الإذعان بين الشعوب وحكوماتها، وإعلان قاطع بأن إرادة الشعوب تفترق عن حسابات السلطة، وأن الضمير الشعبي العالمي يأبى أن يُدجَّن أو يُستَخدم لتبرير جرائم تُرتكب باسمه. هنا تتحوّل الانتفاضة إلى مساءلة وجودية: أيّ عالم نعيش فيه؟ وأيّ بشر نكون إن صمتنا؟
ليست هذه الانتفاضة موسمية، ولا هي مجرد “ترند”؛ إنها تستمر بزخم على مدار عام ونصف العام حتى الآن، وتتمركز في مجالات حساسة ومؤثرة، إذ لا تقتصر على الشارع فحسب عبر التظاهرات والاعتصامات، بل تمتد إلى جبهات مقاوِمةٍ فعّالة أخرى: من المقاطعة بأشكالها المختلفة، إلى قاعات المحاكم الدولية، عبر ملاحقات قانونية لمسؤولين إسرائيليين، وصولًا إلى ميادين السياسة الدولية، عبر قطع العلاقات مع إسرائيل وحظر بيع الأسلحة إليها. تتغلغل هذه الانتفاضة في فعاليات الثقافة والفنون والآداب والموسيقى والأغاني والمسرح والسينما. تعلن عن نفسها عبر رسوم وملصقات الجدران، وفي المتعلقات الشخصية كالكوفية والقمصان التي تُطبع عليها الرموز الفلسطينية وشعارات التضامن.
على صعيد المقاطعة، أُطلقت حملات اقتصادية ضخمة لتقويض سلاسل توريد تدعم آلة الحرب الاستعمارية. النتائج كثيرة وملموسة، يصعب حصرها في هذا المقال؛ على سبيل المثال، أغلقت شركات مثل ستاربكس عشرات الفروع تحت ضغط المقاطعة. وتراجعت مبيعات شركات مثل ماكدونالدز وبيبسي في دول عديدة بسبب حملات المقاطعة الشعبية. شركات كبرى بدأت تعيد النظر في مواقفها الإعلانية وتخفض ظهورها المرتبط بدعم الاحتلال.
كما نشهد منذ السابع من أكتوبر 2023 تصاعدًا غير مسبوق في حملات المقاطعة الأكاديمية والثقافية والفنية لإسرائيل، ما يشكل تحولًا استراتيجيًا في مواجهة السردية الصهيونية. هذه المقاطعة، التي يقودها أكاديميون وفنانون ومثقفون وجامعات من مختلف أنحاء العالم، تستهدف البنية التحتية الرمزية التي يعتمد عليها الكيان الاستعماري لتلميع صورته وتبرير سياساته القمعية.
في تقرير إسرائيلي حول المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل (نُشر في أواخر عام 2023)، يرى باحث إسرائيلي، يمتلك علاقات أكاديمية واسعة في الخارج، أن العالم الأكاديمي والعلمي قد انعطف ضد الإسرائيليين. وليست هذه المقاطعات، الأكاديمية والفنية والثقافية، مجرد إجراءات رمزية، بل هي ضربات موجعة للسردية الصهيونية، التي تعتمد على التطبيع الأكاديمي والثقافي لتبييض جرائم الاحتلال. إن نجاح هذه الحملات في كسب دعم النخب الأكاديمية والثقافية يفتح آفاقًا جديدة للنضال الفلسطيني، ويؤكد أن الكلمة والفن والمعرفة يمكن أن تكون أدوات فعالة في مقاومة الاحتلال وتفكيك سردياته الزائفة.
“إن نجاح حملات المقاطعة في كسب دعم النخب الأكاديمية والثقافية يفتح آفاقًا جديدة للنضال الفلسطيني، ويؤكد أن الكلمة والفن والمعرفة أدوات فعالة في مقاومة الاحتلال”
أما على الصعيد السياسي، فإننا نشهد تحولات في الخطاب السياسي للحكومات الغربية؛ يرى المحللون أن أحد أهم أسباب هذه التحولات هو الضغط الشعبي المتزايد في الشارع الغربي. وقد صدر مؤخرًا عن قادة كل من فرنسا وبريطانيا وكندا تصريحات مشتركة، حذرت فيها حكومة نتنياهو من الاستمرار في “الأفعال المشينة ضد المدنيين”، ملوّحة “بإجراءات ملموسة” إن لم تتوقف “العملية العسكرية”. كما أعلنت بريطانيا عن إجراءات ضد إسرائيل شملت عقوبات ضد كيانات استيطانية، وتعليق بيع أسلحة ومفاوضات للتجارة الحرة، في حين يبحث الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات.
المظاهرات التي شهدتها لندن وباريس وبرلين وروما ونيويورك ولوس أنجلوس وتورنتو وشيكاغو، لم تكن احتجاجات موسمية، بل موجات متواصلة، فتحت جدلًا حادًا حول العلاقة مع الكيان الاستعماري الإبادي في فلسطين.
كيف نقرأ هذه الانتفاضة؟
علينا كفلسطينيين، ومنتفضين من عرب وأجانب، قراءة هذه الانتفاضة بعمق وجدية؛ فهي تُحدث تغييرًا جوهريًا: بوضعها فلسطين في قلب الخريطة العالمية، لا كجرح مهمل، بل كرمز كوني. صحيح أن هناك حالة سائدة من العجز والإحباط، تترسّخ في ظل استمرار الإبادة والحصار، وفي ظل ضعف حراك الشارع العربي مقارنة بالشارع الغربي، لكن هذا لا يعني موت القضية في الوجدان العربي، بل على العكس تمامًا؛ إذ ترسّخَ ارتباط الوجدان العربي بفلسطين بعد السابع من أكتوبر، وأصبح الوعي العربي أكثر عمقًا في فهمه للواقع الاستعماري، وبعوامل بقائه واستمراره.
كما أن هناك عوامل مسببة لهذا الضعف الميداني في الشارع العربي: من قمع سياسي وأمنيّ، واستنزاف اقتصادي، وانسداد المجال العام. ولكن الخطر الحقيقي على الكيان الاستعماري يكمن في استمرارية تمركز القضية الفلسطينية في الوجدان العربي، وفي ترجمة الوعي العربي إلى مقاطعةٍ شاملة ورفضٍ ثقافيٍّ وسياسيٍّ عميق، وليس فقط في لحظة غضبٍ جماعيٍّ في الشارع قد تخبو. هذا الرفض المتجذّر في الوجدان العربي هو ما يقلق الكيان الصهيوني حقًا، لأنه يهدّد مشروعه على المدى الطويل في المنطقة. فالتضامن العربي مع فلسطين كالنار تحت الرماد، قد لا تظهر له ألسنة اللهب المرتفعة كل يوم في الساحات، لكن جمره متّقد في القلوب، ومظاهره العملية (كالدعم المالي للشعب الفلسطيني، والمقاطعة، والمشاركة الرقمية، ومعركة السردية) تحرق أعداءه بصمت.
هناك ضرورة إلى تحويل هذه الانتفاضة العالمية إلى مسار دائم، بحيث لا تكون استمراريتها مشروطةً باتفاقات سياسية حول وقف إطلاق النار. فالانتصار الحقيقي لا يكون عبر تحقيق مطالب مرحلية تخضع لإرادة المستعمِر، بل يكون عندما تبقى المعركة حيّة في الوعي الجماعي. لذا يجب أن يبقى إيقاعها نابضًا في كل مجال: في الثقافة، في الاقتصاد، في القانون، في الإعلام، في الفن، في التعليم، في الحملات الشعبية.
من الضروري أن نجعل فلسطين حضورًا دائمًا، لا ردّ فعل مؤقتًا. أن نكون شعبًا يقود رمزيته، لا ينتظر أن يُقاد. هذه الانتفاضة لحظة تاريخية، لكنها أيضًا لحظة تؤسس لرؤية جديدة، لتحالفات جديدة، ولخطاب جديد. إنها لا تعني فقط أننا لسنا وحدنا، بل تعني أننا نملك، لأول مرة منذ عقود، فرصة إعادة تعريف موقعنا في العالم. أن نكون لا الهامش، بل المركز. أن نكون لا الهاربين من النسيان، بل صنّاع الذاكرة.
استراتيجيات عملية
حتى لو توقفت الحرب العسكرية على غزة، فإن التحدي الأكبر للفلسطينيين وقوى التضامن هو تحويل زخم هذه الانتفاضة العالمية إلى قوة دافعة مستمرة لتحقيق العدالة. وهذا يتطلب استراتيجيات ذكية، من بينها التوثيق الدقيق والشامل، عبر تعزيز آليات توثيق كافة انتهاكات الاحتلال وجرائم الحرب (بالصور، والفيديوهات، والشهادات، والأدلة المادية)، بشكلٍ منهجيٍ وقابلٍ للاستخدام قانونيًا وإعلاميًا. هذه هي الذخيرة الأهم في حرب الرواية والمحاكمات.
ومن المهم التواصل المباشر مع قوى التضامن العالمية، وتفعيل دور الجاليات الفلسطينية والمثقفين والنشطاء الفلسطينيين في مخاطبة الرأي العام العالمي مباشرةً، وتقديم الرواية الفلسطينية بكل تفاصيلها. يضاف إلى ذلك، استثمار النجاحات القانونية، عبر تقديم الدعم اللوجستي والمعلوماتي للمحامين والمنظمات الدولية التي ترفع دعاوى ضد إسرائيل ومسؤوليها، وتحويل كل حكمٍ لصالح الفلسطينيين إلى مناسبةٍ إعلاميةٍ وسياسيةٍ كبرى.
على الصعيد الإعلامي، من المهم الاستمرار في تحطيم جدران السردية الاستعمارية، عبر تطوير منصات إعلامية فلسطينية وعربية ودولية مستقلة وقوية، تستخدم أحدث التقنيات وتتحدث بلغات متعددة، وتقدم المحتوى المؤثر الذي يركز على الرواية الفلسطينية. بالإضافة إلى توظيف الإبداع الرقمي، بالاستمرار في إنتاج محتوى مرئي وسمعي وبصري (إنفوجرافيك، أفلام قصيرة، بودكاست، فنون رقمية) عالي الجودة ومصمم لمخاطبة جماهير مختلفة، قابل للانتشار السريع عبر وسائل التواصل.
من الاستراتيجيات أيضًا: تعظيم تأثير الأدلة والوثائق؛ عبر تحويل تقارير المنظمات الحقوقية الدولية والشهادات الشخصية إلى حملات إعلامية مركزة ومكثفة تصل لصناع القرار والرأي العام. ومن المهم الاستمرار في فضح مختلف أشكال التطبيع مع الاحتلال، بالتركيز الإعلامي المستمر على أي خطوات تطبيعية جديدة في مختلف المجالات، ودعم حملات المقاطعة ضدها. كما يبقى من الضروري بناء أرشيف رقمي دائم، بإنشاء قاعدة بيانات شاملة ومنظمة لكل ما يتعلق بانتهاكات الاحتلال وجرائم الحرب وجهود المقاومة والتضامن، تكون مرجعًا للباحثين والإعلاميين والمحامين.
الزيتونة والشعلة
لقد أثبتت الانتفاضة العالمية أن شجرة الزيتون الفلسطينية، رغم كل محاولات القلع والحرق، تمتد جذورها في تربة الضمير الإنساني الخصبة في كل قارة. إنها ليست مجرد ردة فعلٍ على العدوان على غزة، بل هي صحوةٌ عميقةٌ ضد نظامٍ استعماري قائمٍ منذ عقود، صحوةٌ ترفض أن يكون الصمت شريكًا في الجريمة. لقد حملت الشعوب، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، شعلة الحق، وأضاءت بها عتمة التضليل واللامبالاة. هذه الشعلة لا يمكن للكيان الاستعماري وحلفائه إخمادها بسهولة، لأن وقودها هو العدالة، ولأن حامليها هم الملايين الذين أدركوا أن فلسطين قضيتهم.
هذه الانتفاضة العالمية هي صفحةٌ جديدةٌ في سِفْر النضال الفلسطيني الطويل. إنها رسالةٌ واضحةٌ للاحتلال: العالم يتغير، وحصانة الإفلات من العقاب تتآكل، وأيام القتل والقمع من دون حسابٍ تُعَدّ. وهي رسالةٌ للفلسطيني: أنت لست وحدك، فالأرض كلها ترفض ظلمك، والضمير العالمي يقف إلى جوار حقك. الطريق طويلٌ وشاقٌّ، لكن هبَّة الضمير هذه قد رسمت خارطة طريقٍ جديدة: طريق المقاومة الخلّاقة، والمقاطعة العنيدة، والملاحقة القانونية الدؤوبة، والتضامن الشعبي الذي لا ينكسر. إنها شعلةٌ يجب ألا تنطفئ؛ فهي نورُ الحقِّ في زمنِ الظلام، وبوصلةُ الإنسانية نحو شاطئ العدل. فلسطين حية باقيةٌ، إذ لا زالت تقرع جدران الخزّان لتوقظ ضمير العالم.
شارك هذا المقال