ما يحدث في جورجيا نموذجٌ مصغر لأثر حرب أوكرانيا على جيوسياسية العالم، فإن دول منطقة جنوب القوقاز (أذربيجان وأرمينيا، وجورجيا) تمثل الممر الاستراتيجي الذي يربط بين أسيا وأوروبا، والذي يسمح بالوصول إلى مناطق غنية بثروات الطاقة والمعادن في بحر قزوين وأسيا الوسطى. وبالنسبة لجورجيا فهي تقع على مياه البحر الأسود، ما يوفر للغربيين الوصول إلى المناطق المتاخمة للحدود الجنوبية لكل من روسيا والصين، وتشكل أيضاً ممراً موازياً للممر التركي الذي يتصل في النهاية بجورجيا أو إيران.
قسوة الدرس الأوكراني
الصورة التي تشكلت حول جورجيا بعد ثورتها المخملية عام 2003، أنها تتجه نحو الانعتاق من التبعية الروسية والتكامل مع العالم الغربي وصولاً إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو). لكن واقعية الجيوسياسية كانت تتحدث عن شيء آخر، فقد احتلت روسيا أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عام 2008م، الأمر الذي لم يغب عن جورجيا بأنها فقدت خمس أراضيها دون أن يساندها الأوروبيون!
ثم جاء الغزو الروسي الأكبر لأوكرانيا عام 2022، ليؤكد أن مسألة التصرف كفاعل مستقل والقدرة على تحديد المصالح الوطنية من منطلق استقلالية القرار لا يمكن تحقيقه من خلال تجربة أوكرانيا التي تحولت إلى ساحة معارك بين روسيا والغرب.
ويكشف إعلان رئيس الوزراء الجورجي، إيراكلي كوباخيدزه، أن بلاده ستكون أكثر استعداداً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2030، أن تبليسي التي لم تستعد العلاقات مع موسكو على خلفية الأراضي التي فقدتها لا تريد الذهاب إلى تكرار أخطاء أوكرانيا باستثارة غضب الروس، وتعمل على سد الذريعة التي ينفذ منها الغربيون إلى الداخل للعب فيه.
كما أن وجود حزب “الحلم الجورجي” الائتلافي في السلطة من خلال شخص رئيس الوزراء وكذلك رئيس البلاد، ميخائيل كافيلاشفيلي، يعني أن جورجيا تمضي على غرار الأحزاب المحافظة في أوروبا، حيث الأولوية للمصالح الوطنية وليس للتكامل مع أوروبا على حساب التوازن بين الشرق والغرب. ولذلك تتعامل المعارضة الجورجية مع الحزب الحاكم بوصفه ضربةً لطموحاتها بشأن عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو ما يدفع الحكومة لاتهام الأوروبيين بتحريكهم للمعارضة من أجل إسقاطها!
وتكشف خطة الخارجية الجورجية حول إغلاق مركز المعلومات التابع للحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي وسط العاصمة تبليسي، تموز (يوليو) المقبل، الذي مهمته إشراك الجورجيين في عملية التكامل مع الاتحاد الأوروبي منذ عام 2005، أن الدولة الجبلية تسعى للنأي بنفسها عن معارك الغرب وكذلك الحفاظ على السلام مع جارتها الشمالية الكبيرة.
رأس حربة أوروبية
لم يكن تغيُّر المناخ السياسي في جورجيا يتعلق بالضغوط الروسية فحسب، بل بالسلوك الأوروبي الخطأ الذي سعى إلى استخدامها رأس حربة بفتح جبهة ثانية مع روسيا لإسناد أوكرانيا. وهو ما دفع الدول الغربية للضغط على تبليسي بفرض عقوبات باسم حماية الحريات والقيم الديموقراطية إلى جانب إيقاف المساعدات.
ولا ننسى أن حزب الحلم الجورجي تحديداً هو من أدرج في الدستور ضرورة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مجادلًا بأن مسار جورجيا أوروبي بحت. ولذلك فإن تفعيل تبليسي لقانون “تسجيل العملاء الأجانب”، هدفه مراقبة التمويل الأجنبي للأفراد والمؤسسات من أجل حماية الداخل من عبث الخارج.
وفي المحصلة، لا يمكن وصف جورجيا بأنها تبتعد عن الأوروبي وإلا ما كانت تشارك في قمة المجموعة السياسية الأوروبية في ألبانيا، وإنما تعمل على تعزيز استقلاليتها وحمايتها من المظاهر السلبية للسياسة الخارجية المشتركة مع الغرب التي تصر بروكسل عليها، بجانب إدراكها حاجة الأوروبيين لموقعها الجيوسياسي بشكل لا يمكن تخطيه أو تجاهله.