–
لم يعد هناك شك في نية العالم للانفتاح على الدولة السورية في مختلف المجالات. ولعل التصريحات الأميركية والأوروبية تعكس شعوراً متزايداً بالمسؤولية والشراكة في عملية البناء، ما يحوّل العامل الخارجي الذي كان سبباً في تعطيل القدرة على النهوض من قعر الاقتصاد خلال الأشهر التي تلت تحرير سورية إلى عامل حاسم في تقويض ما خلفه نظام بشّار الأسد من خراب ممنهج، وتدمير وحشي لسورية والسوريين معاً.
في الوقت نفسه، دخلت الحكومة السورية بسرعة إلى اختبار لقدراتها الذاتية للقفز فوق حالة الانهيار إلى العمل المؤسّسي الجادّ، تارة مستخدمة عصا القوانين القائمة، على الرغم من تقادمها ومعرفتنا بظروف تشكيلها وفقاً لاحتياجات استثمارية تقونن فساد المرحلة الماضية، وتسهل عملية استيلاء أزلام النظام على منابع الاقتصاد وإنتاجيّته، وتارّة باتخاذ قراراتٍ تخالف القوانين أو الدستور المؤقت المعمول به، الأمر الذي يجعل من حاجة سورية إلى صناعة بيئة تشريعية متكاملة وحديثة، لا تقوم على الترميم أو الترقيع، بل على بناء منظومة قانونية متطوّرة تمنح الثقة للمستثمرين المحليين والأجانب، وتراعي ضمان استدامة عائدية الاقتصاد الوطني وحماية ملكيته.
من هنا، يمكن الحديث عن أهمية وجود مؤسّسة تشريعية، وفق معايير برلمانية تقنية، تمثل نخبة قانونية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية ورياضية، فكل مجالات العمل اليوم هي مشروع استثمار ناجح، لا يمكن تجاهله، ولا يمكن تعريضه لمخاطر الهفوات التشريعية، ووجود مجلس تشريعي فعّال ومتوازن ومستقلّ يضمن استصدار القوانين الواضحة والجامعة والمانعة، والتي تتوافق مع المعايير الدولية في مجالات الاستثمار وحقوق المواطنة والعمل، يعزّز من الاستقرار القانوني ويسرّع عملية دخول المستثمرين إلى الأسواق المحلية، فأحد أهم ما يشجّع على دخول الاستثمارات إلى أي بيئة، ويعزّز مناخ الثقة والشفافية، وجود منظومة قضائية نزيهة ومستقلة، قادرة على الفصل في النزاعات بسرعة وحيادية، وجملة قوانين متكاملة تحمي جميع الأطراف، وتضمن حقوق الملكية بكل أشكالها، سيما الملكية الفكرية، والتي يعدّها رواد الصناعة الحديثة حجر الزاوية في بناء اقتصاد حديث وقائم على المعرفة والابتكار، فما هو مطلوب من المجتمع الدولي صار في متناول يد السوريين، أسواق مفتوحة واتفاقات تجارية ومصرفية ومالية، أي أن الشقّ الخارجي، وهو رفع العقوبات الأميركية والأوروبية، وإزالة سورية من قائمة الدول المارقة، وتسهيل انسياب الشراكات الأجنبية إليها، والسماح بحرية حركة الأفراد من العالم وإليه، كما كان طوال السنوات الماضية صار محققاً، بل ومحرّضاً على الاستثمار والبناء.
كل استثمار لا يأخذ بالاعتبار عوامل نجاحه وأمانه عابر، يراهن على الأزمات وليس على حلولها
وقد يكون ما هو مطلوب من السوريين حكومة وشعباً الإرادة المحلية الحازمة بإطفاء الحرائق السياسية التي تنتقل من مكان إلى مكان، لتوفير الاستقرار السياسي والأمني الذي يراهن عليه رأس المال الجبان كما يقال، فاختبار قدراتنا على التحكّم بخلافاتنا لتكون رافعة لتوجيه البيئة التشريعية الضامنة لحقوق السوريين وتنوّعهم هو الامتحان الصعب الذي تنجح فيه الدولة السورية، كلما توسّعت حدود قدرتها على صناعة السلم الأهلي وتقلصت مساحة خلافاتها مع أبعد النقاط عن مركزها في دمشق، ما يسمح بانسياب نتائج الانفتاح الاقتصادي الذي يتوجّه الاستثمار المحلي قبل الأجنبي على كامل الأراضي السورية، ليكون الكفّة الراجحة في ميزان المصلحة الوطنية.
كل استثمار لا يأخذ بالاعتبار عوامل نجاحه وأمانه عابر، يراهن على الأزمات وليس على حلولها، وفي أجواء المنازعات المحلية قد يختلط الغثّ بالسمين، ما يجعل مسؤولية الجهات الحكومية كبيرة على جبهتين، داخلية لتأكيد سيادة مؤسساتها المعنية واستشارة الخبراء والمحكمين، وخارجية في التحقق وضمان دخول المؤسسات القوية والمجرّبة، مع إتاحة المجال للمبتكرين والمبدعين المحليين والدوليين لتكون سورية مكاناً آمنا لأعمالهم وفق معايير دولية واحترافية، ففي سورية تجارب لا يمكن تجاهلها في الاستثمار الوهمي والفاسد.
تبقى الصورة الاقتصادية لسورية انعكاساً لنجاحات الواقع السياسي، ما يجعل من كل مصالحة داخلية رافعة حقيقية لمؤشّر أرباح أسهمنا المحلية والدولية، فهل تفعلها القوى السياسية على اختلاف مسمّياتها، علوية ودرزية وكردية، وأيضاً القوى فوق الطائفية، لمصلحة السوريين جميعهم؟