ملخص
التحدي كبير حالياً أمام لبنان وسوريا ليس في موضوع من يسبق من وبماذا بل في تكامل الاقتصاد الكلي، فكلما اتسعت مساحة الجغرافيا أمام الاقتصاد، ازداد تحسن الاقتصاد في البلدين لجهة تنويع الصادرات وتوسيع مجالها.
لبنان له مصلحة حيوية في انفتاح العرب والغرب على سوريا بإدارة الرئيس أحمد الشرع، وبدء التوجه السوري إلى الاقتصاد الليبرالي. وهو معني، لا فقط بالفرصة المفتوحة لعلاقات طبيعية مع دمشق بعد كابوس الوصاية السورية خلال حكم آل الأسد بل أيضاً بتصحيح ومراجعة وإعادة النظر في اقتناعات رسمية وشعبية مؤذية بدت كأنها مسلمات في سياسات كل من البلدين.
ولا مبرر للتخوف من أن تسبق سوريا لبنان في إعادة الإعمار وتجديد البنية التحتية، لأن عليها أن تقطع مسافة طويلة للوصول إلى حيث يقف لبنان حالياً، على رغم أزماته المتعددة. فالشرعية اللبنانية في الوضع الجديد كاملة الأوصاف، في حين أن الاعتراف الرسمي بالشرعية السورية للإدارة الجديدة مؤجل حتى تأكيد الأقوال بالأفعال، وإن بدأ الدعم القوي تحت مجهر المراقبة الدقيقة. غير أن دمشق تبني بسرعة رصيداً في عواصم القرار عبر تطبيق ما التزمته من مهام، وبيروت تتعثر في إنجاز الجانب الأساس من المهام التي تلتزمها.
ذلك أن إدارة الرئيس أحمد الشرع أخذت لائحة الشروط المطلوبة منها وبدأت تنفيذها، من تقييد نشاط الفصائل الفلسطينية وسحب سلاحها إلى حل الفصائل المسلحة ودمجها في الجيش الوليد وإقناع واشنطن بأن ضم المقاتلين الأجانب، لا سيما الإيغور منهم، إلى الجيش أفضل من تركهم على الطريق لإحداث الفوضى والانضمام إلى “داعش” و”القاعدة”. ومن تشكيل لجان وهيئات للتحقيق في المجازر والبحث عن المفقودين وتفعيل العدالة الانتقالية إلى إشراك القطاع الخاص السوري والعربي والأجنبي في مشاريع النهوض الاقتصادي.
والبداية كانت إنجاز عقد مع أربع شركات عربية دولية لبناء معامل كهربائية تنتج 5 آلاف ميغاوات، وعقد آخر مع موانئ دبي لتوسيع المرافئ السورية وتجديدها وإدارتها. ومن التفكير في مطلب الرئيس دونالد ترمب الدخول في “اتفاقات أبراهام” إلى إجراء محادثات مباشرة وغير مباشرة مع إسرائيل والإعلان يومياً أن دمشق لا تشكل تهديداً لأي من جيرانها، وبينهم إسرائيل. والباقي هو تحقيق التزامات أخرى تلح عليها أميركا وأوروبا والدول العربية، وهي الانفتاح الداخلي على التنوع في المجتمع السوري، وبدء تمثيل هذا التنوع في السلطة. لا في المناصب الشكلية بل في المراكز الحساسة والمهمة التي أعطيت في المرحلة الأولى للقادة والكوادر في “هيئة تحرير الشام” وبعض حلفائها.
وهذه أمور بالغة الأهمية بالنسبة إلى السوريين قبل الآخرين. فالدعم الأميركي خوفاً من “انهيار سوريا” بحسب وزير الخارجية ماركو روبيو ليس على مستوى الدعم الضروري لتطور سوريا على أيدي أصحاب المهارات من أبنائها في مختلف المناطق والمكونات بدل أصحاب الولاءات، الذين يتسلم بعضهم أكثر المناصب حساسية من دون خبرة ولا حد أدنى من المعرفة.
واستمرار العجز عن حماية المواطنين في الساحل وريف دمشق وحمص من المجازر، كما عن محاسبة المرتكبين يعني أن سياسة “التكفير” مستمرة على رغم خطاب الشرع ودعوته إلى “التفكير”. والفرصة المفتوحة من العرب والغرب مشتركة بين لبنان وسوريا. وهي فرصة لتصحيح نوعين من العلاقات الاقتصادية، والعمل على ترسيم الحدود البرية والبحرية بين البلدين وإعادة النازحين. النوع الأول هو الذي ساد خلال الوصاية السورية: كل الاتفاقات مع لبنان كانت لمصلحة سوريا. ولم يكن من الممكن بدء تكامل بين نظامين اقتصاديين متناقضين، واحد ليبرالي حر وآخر يوصف بأنه “اشتراكي”.
لكن ما حدث هو التكامل بين المافيا المقربة من الأسد والمافيا المالية والسياسية والميليشياوية في لبنان. النوع الثاني هو ما كان في بدايات استقلال البلدين عن فرنسا، بحيث أضاعت السياسات الأنانية الضيقة فرصة تكامل نظامين اقتصاديين حرين. كيف؟ بالخلاف بين الذين يعطون الأولوية للتجارة في لبنان والذين يعطون الأولوية للصناعة في سوريا. ومن هنا لعنة “القطيعة” بين الاقتصادين التي أعلنها خالد العظم عام 1950، وتصور تجار بيروت أنها مفيدة لهم. لكن الواقع أن دمشق خسرت الامتيازات التي كان يؤمنها لبنان. وخسرت بيروت بدورها المجال الاقتصادي الواسع في سوريا وعبرها إلى البلدان العربية.
“الوزاري الخليجي” يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من سوريا ولبنان
وكل شيء كان ضد المنطق الاقتصادي. فالجمع بين التجارة والصناعة ليس مهمة مستحيلة ولا صعبة بل قضية لا بد منها في أي اقتصاد. هكذا هي الحال في الاقتصاد الأميركي الذي هو الأول في العالم، حيث التكامل بين التجارة والصناعة ثم التطور نحو اقتصاد المعرفة والتطور التكنولوجي وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي.
وهكذا هي الحال في الاقتصاد الصيني الذي هو الثاني في العالم، والذي تتركز الاهتمامات والسياسات الاقتصادية فيه على زيادة الإنتاج الصناعي وتطوير التجارة مع العالم. والرمز هو مشروع “الحزام والطريق” الذي استوحى قصة “طريق الحرير” في القرون الماضية، وفتح شراكات مع نحو 130 بلداً. كذلك الأمر في الاقتصادات الألمانية والبريطانية والفرنسية والإيطالية وسواها. حتى البلدان التي تنتج النفط، فإنها تسعى إلى تنويع الاقتصاد غير النفطي إلى جانب تنمية التجارة، بحيث صار الناتج المحلي السعودي البالغ 1.1 تريليون دولار يعتمد بنسبة النصف تقريباً على الاقتصاد غير النفطي.
والتحدي كبير حالياً أمام لبنان وسوريا. لا في موضوع من يسبق من وبماذا بل في تكامل الاقتصاد الكلي. فكلما اتسعت مساحة الجغرافيا أمام الاقتصاد، ازداد تحسن الاقتصاد في البلدين لجهة تنويع الصادرات وتوسيع مجالها.
وما كان العماد الأساس للاقتصاد في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الـ20 تجاوزه بمسافات اقتصاد المعرفة، حيث الرأسمال هو العقل قبل الآلات، والتبادل التجاري هو توظيف الرأسمال. وإذا كانت حلب مركز الصناعة، فإن دمشق مركز التجارة وتجارها أشطر حتى من تجار بيروت. وإذا كانت الأرض ضيقة على الزراعة في لبنان بما في ذلك سهل البقاع وسهل عكار، فإن الأرض واسعة في سوريا. وأكبر مؤسسة للزراعة خلال الخمسينيات والستينيات في الجزيرة شرق الفرات كانت مؤسسة “أصفر ونجار” اللبنانية. وعماد البناء والزراعة في لبنان هم السوريون وكان اللبنانيون عماد المصارف في سوريا خلال المرحلة الأخيرة قبل انهيار النظام المصرفي في بيروت.
و”الجدران العالية تصنع جيراناً جيدين” كما كتب الشاعر الأميركي روبرت فروست.