تتعدّد أسباب كره دونالد ترامب ويتفاوت منسوبه وفق قناعات الكارِه وأولوياته واهتماماته وخلفياته وقناعاته وحساسياته ومبادئه وأخلاقه وزاوية نظرته إلى هذه الحياة. وفي حضرة شخصيةٍ من هذا النوع، يصعُب تلطيف الكلام والاكتفاء بـ”معارضة ترامب” أو “رفض سياساته وشخصيته وسلوكه”، ليصبح الكره مصطلحاً وحيداً معبّراً عن مشاعر مَن لا يزال يطمح إلى أن يعيش وأولاده وأحفاده في عالم أقلّ بشاعة وأكثر إنسانية، تجاه الرئيس الأميركي الـ47. لدى من يعتبرون أن التغير المناخي الذي صنعه البشر أكبر تهديدٍ لكوكبنا، مئات المبررات ليصنّفوا ترامب عدواً أول. النساء يجب أن يكرهنه بوصفهنّ كائنات لا يراهنّ ترامب سوى سلعة، كذلك الفقراء عموماً، هو الذي ينظر إليهم زائدين على الحاجة، لأن الحياة لا تليق إلا بأصحاب الأصفار الستة أو التسعة في الحسابات المصرفية. زعماء الدول يجب أن يبغضوه بقدر ما يخشون إهاناته وعجرفته ووقاحته وطمعه المعلن بثروات بلادهم أو بأوطانهم نفسها. جماعة حقوق الإنسان والليبرالية والقانون الدولي والمنادون بنظام دولي أكثر عدلاً لديهم أطنان الأسباب الموجبة لكي يعتبروا ترامب خطراً وجودياً. أنصار الديمقراطية خياراً أمثل لتدبير شؤون المجتمعات ولحل النزاعات سلمياً، يُفترض أن يكون الحقد على الرئيس الأميركي الحالي دستورهم. التقدّميون كارهو الشعبوية واليمين المتطرّف والفاشية لو أرادوا رسم شخصية نقيضة لكل ما يفكرون فيه، لتجسّدت في ترامب نفسه. مؤيدو العولمة، الرأسماليون جداً، لا بد أنهم يتحسّسون رقابهم كلما سمعوا شتائمه لفتح الحدود وتمجيده قيم الحمائية الاقتصادية. المهمّشون اجتماعياً وجندرياً واليساريون ممن تتماهى أوصاف ترامب لهم مع تناول هتلر أجدادهم، أقلّ الإيمان أن يبادلوه المشاعر إياها.
لكن هناك فئة قد لا يضاهي كرهها ترامب كره أي مجموعة أخرى له، هي فئة الأميركيين الليبراليين الذين يدركون سرّ قوة أميركا وتصدّرها العالم. والسرّ ليس سوى أن أميركا هي صاحبة “النموذج”، ذلك الذي يدمّره ترامب، فيجرّد بلده رويداً رويداً من أسباب قوته عندما يصبح هناك مدفع أقوى من المدفع الأميركي، وعندما يمسي الاستهلاك عاجزاً عن تعويض الدين العام الأميركي. حملة ترامب هي على النموذج الأميركي الذي تجسّده صور “الحلم الأميركي”، على إمكانية الارتقاء الاجتماعي، على طموح السفر إلى بلده للدراسة ولصنع الثروة وللتميز في البحث العلمي وللعيش بحرّية وللإبداع في الفنون والرياضة، ولحمل جنسية بلدٍ فيه “دولة عميقة” أمنية وقضائية، بقدر ما كانت تثير ريبة ورعباً لدى ذكرها، نكتشف اليوم كم أن وجودها ضروريٌّ ومطلوبٌ لوضع حدّ لرئيس متسلط شعبوي من طينة ترامب.
ليست حرب ترامب على لوس أنجليس ومهاجريها وعلى الجامعات الأميركية موجهة ضد الأجانب بالدرجة الأولى، بل على المجتمع المتنوّع والنموذج الأكاديمي المفتوح، الحر والمستقل عن السلطة السياسية. كذلك هي معركته الشعواء ضد وسائل إعلام وشركات ومتاحف ومنظمات غير حكومية وجمعيات خيرية ومؤسّسات ووزارات ووكالات حكومية وأندية رياضية ودور نشر تصرّ على نشر قيم “النموذج الأميركي” في العالم وحمايته في الداخل، وإبقاء أبوابها مفتوحة لجميع الطاقات والنخب لاستقطابها بهدف الاستفادة منها، لكن بذكاء وبحرية، لا كما يفهم ترامب الاستفادة مردوداً مادياً مباشراً ونقدياً.
عندما قال ترامب في ولايته الرئاسية الأولى إنه يحلم بأن تصبح الصفوف البشرية المرصوصة التي تعبد الزعيم الكوري الشمالي وتهتف باسمه، مشهداً أميركياً، ظنّ ساخرون أنها واحدة من ثرثراته التي يرميها ليبقى اسمه متصدّراً الإعلام و”السوشال ميديا”. لكن سرعان ما تبيّن أن الرجل لم يكن يمزح، وها هو يقيم يوم السبت المقبل احتفالاً شعبياً في واشنطن يعد بأن يكون مليونياً إحياءً لذكرى ميلاده، وهو ما كاد آخر جيل من السوفييت يخجل فعله في عيدي مولدي لينين وستالين.
غداً بعد انتهاء ولاية ترامب الثانية، وربما الثالثة، يمكن لهواة الخيال العلمي أن يستعينوا بحدّ أدنى من نظريات المؤامرة ليُخرجوا أفلاماً مذهلة عن رجل أرسله أعداء أميركا مجتمعين كي يرأس الولايات المتحدة، فذكره التاريخ بوصفه مدمّر النموذج الأميركي، ومعه هذا الكوكب.