ملخص
في حين عد كثيرون أن سحب الدبلوماسيين الأميركيين من المنطقة ينذر بضربة عسكرية إسرائيلية لإيران، لكن هذا الأمر يتناقض مع المؤشرات المرتبطة بأن هناك جولة سادسة من المفاوضات ستعقد الأحد المقبل، وأن روسيا تدخلت منذ أيام للتوسط بين إيران وأميركا في المحادثات، وعرضت الوساطة للوصول إلى حل وسط مع الإسهام العملياتي في بعض الجوانب الفنية للبرنامج النووي.
حدثان مهمان خلال الساعات الأخيرة ترافقا معاً قبيل بدء الجولة السادسة من المحادثات بين طهران وواشنطن الأحد القادم في عُمان، ولا شك في أنها سيلقيان بتداعياتهما على المحادثات المقبلة، وهو ما طرح التساؤل عن سبب التصعيد الآن وهل تنذر ذروته بفشل المحادثات ومن ثم التوصل إلى اتفاق؟ أم أنه يسبق الانفراج، ولا سيما أنه مع التصعيد دائماً ما تتجه الجهود نحو الحل؟
الحدث الأول كان بالأمس حين شهد الشرق الأوسط توتراً متزايداً مع سحب الولايات المتحدة موظفيها غير الأساسيين والسماح لأسر العسكريين بالمغادرة، وتحذير ترمب من أن المنطقة قد تصبح خطرة، مؤكداً أن واشنطن لن تسمح لإيران بامتلاك أسلحة نووية، تزامناً مع تصريحه بعدم ثقته في التوصل إلى اتفاق.
وفي اليوم التالي كان الحدث الآخر هو إعلان “مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية” أن إيران تنتهك التزاماتها المتعلقة بمنع الانتشار النووي، وذلك للمرة الأولى منذ ما يقارب 20 عاماً، مما أثار احتمال إحالة الملف إلى مجلس الأمن الدولي.
وتمثل هذه الخطوة ذروة كثير من المواجهات المتفاقمة بين “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” وإيران من جهة، وبين إيران والدول الأوروبية من جهة أخرى، منذ انسحاب الرئيس دونالد ترمب من الاتفاق النووي عام 2018 خلال ولايته الأولى، والذي انهار بعده هذا الاتفاق.
وقد نص قرار “مجلس محافظي الوكالة” على أن “إخفاق إيران المتكرر في الوفاء بالتزاماتها منذ عام 2019 بتقديم تعاون كامل وفي الوقت المناسب للوكالة في شأن المواد والأنشطة النووية غير المعلنة في مواقع عدة مجهولة في إيران، يشكل عدم امتثال لالتزاماتها بموجب اتفاق الضمانات مع الوكالة”.
إيران والواقع الجديد داخل الشرق الأوسط
وفشلت إيران في تقديم تفسيرات موثوقة للوكالة الدولية حول كيفية وصول آثار اليورانيوم المكتشفة في مواقع غير معلنة إلى هناك، على رغم أن الوكالة أجرت تحقيقات في المسألة لأعوام، وهي المواقع التي كان كشفت عنها إسرائيل بعد سرقة الأرشيف النووي الإيراني عام 2018.
ويعتبر القرار أن فشل إيران في الإجابة عن تلك المواقع يثير تساؤلات تقع ضمن اختصاص مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بصفته الهيئة المسؤولة عن صون السلم والأمن الدوليين، كما يدعو القرار المدير العام للوكالة، رافائيل غروسي، إلى مواصلة جهوده لتنفيذ هذا القرار والقرارات السابقة، وتقديم تقرير عن أي تقدم إضافي في هذه المسائل.
وجاء قرار المجلس بعد تقرير للوكالة الدولية في الـ 31 من مايو (أيار) الماضي، خلص إلى أن ثلاثة من المواقع الأربعة كانت جزءاً من برنامج نووي مهيكل وغير معلن نفذته إيران، وأن بعض الأنشطة استخدمت مواد نووية غير معلنة، وأن إيران خصبت 133 كيلوجراماً من اليورانيوم بنسبة 60 في المئة، زيادة عن المخزون الذي كان لديها في فبراير (شباط) الماضي، وقد جاء قرار مجلس محافظي الوكالة في وقت لا تزال المحادثات جارية بين طهران وواشنطن.
لقد كانت إيران تتوقع الأمر وحذرت قبل صدوره من أنها ستتخذ إجراءات حاسمة حال صدور قرار يدينها، وقال رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي، على هامش اجتماع مجلس الوزراء وقبيل إصدار القرار، “إذا فعلت آلية الزناد فستتخذ ايران القرارات اللازمة في الوقت المناسب، وستعلن وزارة الاستخبارات أن الولايات المتحدة وثلاث دول أوروبية تعمل باستمرار على تطوير أسلحة نووية إسرائيلية”، كما صرح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بأن “الخطأ الإستراتيجي الذي ارتكبته ثلاث دول أوروبية سيجبر إيران على الرد”.
وصرح نائب وزير الشؤون القانونية والدولية في وزارة الخارجية، كاظم غريب آبادي، حول رد فعل إيران على القرار المناهض لإيران في الوكالة، بأن “طهران اتخذت القرارات اللازمة في هذا الصدد داخل هيكل النظام، وسيجري تنفيذ هذه الإجراءات فنياً فور اعتماد تلك القرارات، كما سيستمر البرنامج النووي الإيراني بخطوات فعالة ومتقدمة”.
وبعد صدور قرار الإدانة أعلنت إيران فتح موقع جديد لتخصيب اليورانيوم في منطقة آمنة وتحديث أجهزة الطرد المركزي في “منشأة فوردو” النووية، وقالت إن الأجهزة الجديدة ستكون من الجيل السادس، كما أعلنت القيام بمناورات عسكرية.
وتعتبر النخبة الإيرانية أن ما يحدث هو سلسلة من الإجراءات السياسية والنفسية التي تنفذ بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة ثلاث دول أوروبية، إنجلترا وألمانيا وفرنسا، إضافة إلى المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية في هذا الصدد بإيعاز من إسرائيل، وذلك لممارسة ضغوط متزايدة على إيران للحصول على تنازلات.
وقال مدير الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية “رداً على قرار الإدانة، ستنشئ إيران موقعها الثالث للتخصيب، وقد جرى بناء هذا الموقع وتجهيزه وهو آمن ومنيع، وفور صدور القرار سيجري تقديم المعلومات اللازمة إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وستبدأ عملية تجهيز وتركيب أجهزة الطرد المركزي وأنشطة التخصيب في هذا الموقع الجديد بمجرد تركيب الأجهزة، وستحل الأجهزة المستخدمة في هذا الموقع محل أجهزة الجيل الأول التي جمعت سابقاً، وستستمر هذه العملية مع تركيب أجهزة طرد مركزي متطور”.
وتعي إيران أن القرار لا يعني اتخاذ أي إجراءات إضافية، سواء في شأن التزامات طهران المتعلقة بالضمانات أو غيرها من الأنشطة، وأن إحالة الملف الإيراني لمجلس الأمن يتطلب قراراً ثنائياً من مجلسي محافظي الوكالة، إلا أن طهران تعتبر أن القرار في ذلك التوقيت يضع ضغوطاً سياسية عليها، لكنها تريد أن تبدو وكأنها لم تتضرر أو تتأثر من القرار أو من أجواء التوتر التي سادت المنطقة أمس للإشارة إلى خطوة عسكرية إسرائيلية، ومن ثم تحاول الاستمرار في استعراض القوة عبر المناورات العسكرية لتوحي بأنه لا يزال لديها أوراق عسكرية هي الأخرى، فضلاً عن ورقة زيادة نشاطها النووي قبيل الجولة السادسة لرفع سقف مطالبها وحماية موقفها من أي تنازل أمام الجانب الأميركي، بخاصة في ما يتعلق بمطلب التخصيب المحلى.
وفي حين عد كثيرون أن سحب الدبلوماسيين الأميركيين من المنطقة ينذر بضربة عسكرية إسرائيلية لإيران، لكن هذا الأمر كان يتناقض مع المؤشرات المرتبطة بأن هناك جولة سادسة من المفاوضات ستعقد الأحد المقبل، وأن روسيا تدخلت منذ أيام للتوسط بين إيران وأميركا في المحادثات، وعرضت الوساطة للوصول إلى حل وسط، والإسهام العملياتي في بعض الجوانب الفنية للبرنامج النووي، ومن ثم فلم يكن منطقياً أن تتحرك إسرائيل فجأة نحو توجيه ضربة لإيران، وترمب لم يكن ليسمح بذلك الآن بينما لم يعلن أن المحادثات وصلت إلى الفشل، بل ينتظر الرد الإيراني على المقترح الأميركي الأخير بعد الجولة السادسة.
وهناك مؤشر آخر يبرز ذلك وهو الاستقالات التي شهدتها إدارة ترمب الحالية من بعض المسؤولين المعروفين بقربهم من إسرائيل ولديهم مواقف عدائية من إيران، فقد أُعلنت منذ فترة إقالة مستشار الرئيس للأمن القومي، مايك والتز، وبعدها حدثت سلسلة من التغييرات في “مجلس الأمن القومي” باستبعاد رئيس قسم إيران وإسرائيل، ميراف سيرين، واستقالة المبعوثة إلى لبنان، مورغان أورتاغوس، كما غادر رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن، إريك ترايغر.
وإن كان هذا يشير في جزء منه إلى وجود تيارات مختلفة داخل إدارة ترمب لديها رؤى متباينة للتعامل مع إيران، لكنه يوضح أن ترمب كان يريد مساراً واحداً يعبر عن تصوره لكيفية التعامل مع الملف الايراني وهو التوصل إلى اتفاق، ومخرجات الجولة السادسة هي التي ستحدد إما فشل المحادثات والتوصل إلى اتفاق إيراني – أميركي، أو ستؤدي إلى تجاوز العقبات ومن ثم ترجيح الاتفاق.