ليس خبراً القصفُ الإسرائيلي لمنشآت إيرانية نووية وأخرى عسكرية، واستهداف شخصيات كبرى ذات صلة بالمضمارين. الخبر هو في تفاصيل الضربات الإسرائيلية فجر يوم الجمعة. فليس تفصيلاً على الإطلاق أن تشارك مئتا مقاتلة إسرائيلية في ضربات على أهداف بعيدة جداً عن تل أبيب، ولا هو بالتفصيل العابر استهدافُ شخصيات من الصف الأول بنجاح، أو مشاركة عناصر كوماندوس في الهجوم، أو مشاركة مسيَّرات انتحارية كانت معدّة على الأراضي الإيرانية في انتظار أوامر الإطلاق، بالتزامن مع القصف الذي نفّذته الطائرات المقاتلة من الجو.
حدث مماثل، من حيث اجتماع العناصر الاستخباراتية والعسكرية، كان عندما نفّذت إسرائيل عملية “البيجر”، وما رافقها وتلاها من استهداف لقيادات في حزب الله. وبعيداً عن المكابرة، يمكن الجزم بأن الحزب لم يعد تلك القوة المرهوبة داخلياً، أو حتى خارجياً بوصفه درّة التاج الإيراني، وبوصف صواريخه أداةً تردع تل أبيب عن استهداف طهران.
وكما هو معلوم، بدأ الأمر كله بعملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حماس في السابع من أكتوبر 2023، ولم يكن أقوى المتشائمين بصيرةً ليتوقع عدم انتهاء الرد الإسرائيلي بعد ما يزيد عن عشرين شهراً. في الأصل، أتى الرد الإسرائيلي غير متناسب إطلاقاً مع عملية حماس، ومن الواضح أن مراميه أبعد بكثير من مجرد الرد، أو من مجرد استئصال قدرات حماس بأكملها. نحن نعجز حتى عن وصف الجحيم الذي عاشه فلسطينيو غزة خلال هذه الفترة، وحتى تمنّي نجاتهم بأي ثمن لا يبدو متاحاً، ولا يُعرف تحديداً الـ(أي ثمن) الذي تقبل به تل أبيب.
على مستوى متدنٍّ، قصفت الطائرات الإسرائيلية هدفاً في الضاحية الجنوبية قبل أيام قليلة، وهي ليست المرة الأولى التي تقصف فيها، مخترقةً وقف إطلاق النار المعلن بينها وبين الحزب. في غزة، حالةُ مدّ وجزر العمليات العسكرية مستمرة، وقد شهدت الأيام الأخيرة أيضاً تصعيداً إضافياً، إلا أن الوصف الأخير فقد دلالته اللغوية لكثرة ما استُخدِم، فلم نعد نعرف ما هو التصعيد الاعتيادي ليُعرَف الإضافي. في سوريا، توغّلت القوات الإسرائيلية مسافة إضافية في الأيام الأخيرة، وأخبار التوغّل صارت معتادة، ويجوز القول إن تل أبيب فرضت حدوداً جديدة لتواجد قواتها منذ سيطرت على المنطقة المنزوعة السلاح في الجانب السوري، بموجب اتفاقية الهدنة لعام 1974، ولم تكترث بالإشارات الإيجابية تجاهها الآتية من دمشق.
في واحد من جوانبها، غير الأساسية أو المقصودة بذاتها، يمكن اعتبار العملية الإسرائيلية الأخيرة رسالة للعديد من الدول في الإقليم، مفادها طول الذراع العسكرية الإسرائيلية عند اللزوم. هذا قد يكون له آثار على العديد من الملفات الإقليمية. ومنذ مدة تسرّبت أخبار عن تراجع أنقرة عن إقامة قواعد عسكرية في سوريا، بعد قصف إسرائيل المواقع المفترضة لإقامتها، قبل الشروع في ذلك.
الضربات الإسرائيلية لطهران وحلفائها مبعثُ فرح للمتضررين من المشروع الإيراني في المنطقة، وفي مقدمهم أولياء الضحايا الذين قتلتهم الميليشيات الإيرانية في سوريا، وهناك في القائمة ذاتها متضررين في اليمن وغيره. وكان ثمة قناعة رائجة من قبل، مفادها أن النفوذ الإيراني يتضخم بلا ممانعة إسرائيلية، وأن تل أبيب قادرة على الإجهاز عليه عندما تحين لحظة المواجهة. لكن، رغم هذه القناعة، لم يكن متوقَّعاً حدوث ذلك بالسهولة التي حدث بها في سوريا ولبنان، حيث يفترض أن النفوذ الإيراني فيهما هو خط التماس بين الجانبين.
أيضاً، كانت هناك فرضية رائجة، خصوصاً مع وجود الحزب الديموقراطي في البيت الأبيض، فحواها المقايضة بين البرنامج النووي والنفوذ الإقليمي، بحيث تكسب طهران في الثاني بمقدار تنازلاتها في الأول. وظهر خلال حكم بايدن أن طهران تسعى إلى تقويض المساومة التي كانت أيام أوباما، وكسب النووي والنفوذ الإقليمي معاً. الضربات الإسرائيلية الأخيرة تقول بوضوح أن على طهران القبول مرغمة بخسارة الاثنين. والانصياع الإيراني، إذا حدث، سيكون إعلاناً مدوّياً عن فشل حكم الملالي في مضمارين استثمر فيهما على مختلف الأصعدة، ويكفي منها ما أهدره من ثروات طائلة انتُزعت من لقمة عيش الإيرانيين.
ما حدث من ارتدادات بعد “طوفان الأقصى” أكبر بكثير من ربطه بالعملية ذاتها، وإن تسببت به. فإعلان العصر الإسرائيلي يمكن ردّه إلى ربع قرن مضى، تغيّرت خلاله إلى حد كبير نغمة الخطاب الإسرائيلي الموجَّه للمنطقة، وتوارت فيه الدعوات إلى السلام. نشير تحديداً إلى تخلّي النخبة السياسية بأكملها عن مبدأ “الأرض مقابل السلام”، وتبنّيها مبدأ “السلام مقابل السلام”، وحتى الثاني منهما من المرجّح أنه صار مصحوباً بشروط من جهة تل أبيب، أو غير مرغوب فيه.
نتوقع أن تكون القوة العسكرية الإسرائيلية قد تطورت منذ ربع قرن إلى مستوى أثّر على التوجهات السياسية للنخبة، فلم يعد لديها من حافز للتخلي عن بعض الأرض مقابل السلام. ما تشير إليه عمليتا البيجر ثم عملية فجر يوم الجمعة هو وجود هوة تكنولوجية شاسعة، ليست ابنة اليوم، ولا يُستبعد ازديادها عمقاً واتساعاً كل يوم مع المزيد من التطور التقني والمعلوماتي. فداحة اختلال التوازن التقني بين إسرائيل والجوار لا تتوقف عنده فحسب، بل تمتد إلى آثاره على مجمل السياسات الإسرائيلية التي نرى مؤشرات على دخولها طوراً جديداً.
مثلاً، قد لا تمانع تل أبيب بقاء الحزب في لبنان، ضمن مستوى لا يهددها، ويُبقي لها ذريعة لإبقاء لبنان في حالة من عدم الاستقرار. ورغم “الإيجابية” التي تبديها السلطة الجديدة في دمشق، مدعومة بجمهورها الذي صار يدعو إلى السلام، فلا يظهر في المدى المنظور أي دافع لدى تل أبيب لإبرام صفقة سلام، بينما تستطيع إبقاء الجار الجديد تحت الضغط، وإبقاء سوريا في حالة من عدم الاستقرار. في المثالين اللبناني والسوري، تستطيع القوة العسكرية الإسرائيلية، بثمن بخس، أن تعيق أي مشروع للتنمية والانتعاش الاقتصادي المستدام.
بالطبع، ليست إسرائيل كلية القوة، لكن الحديث التقليدي عن نقاط ضعفها لم تثبت صحته أيضاً. والحديث السوري عن السلام كأنه ذهاب إلى حيث كانت إسرائيل قبل ربع قرن، وربما كذلك هو حال بلدان الجوار جميعاً التي يفكّر أبناؤها في الانكفاء عن الشأن الفلسطيني، إلا أن الانكفاء لا يضمن حقاً البقاء خارج دائرة السؤال الإسرائيلي الكبير، والذي يطرح تحديات عديدة لا تتعلق بالعجز عن المقاومة، بل وبإفلاس مشاريع السلام كلها، وبعدم القدرة على اقتراح مشروع سلام مقبول إسرائيلياً.
لقد عاشت المنطقة من قبل لعقود حالة اللاسلم واللاحرب، ليس هذا ما يُخشى منه حالياً؛ الخشية هي من حالةٍ دون الاثنين تتحكم بها تل أبيب، وتتحكم تالياً بتفاصيل لم تكن تمسك بمفاتيحها من قبل. قد تجيب طهران يوم الأحد المقبل على الاختبار النووي بما يجنبها جولة جديدة من القصف الإسرائيلي. أما السؤال الإسرائيلي المطروح على دول الجوار فهو مديد ومعقّد، والإجابات السهلة البسيطة لا تصلح، إن كانت لها صلاحية فيما مضى.