ملخص
في تسعينيات القرن الـ19، وفي وقت بات فيه من المحتم على النحاتة الفرنسية كاميل كلوديل أن تفهم أن ليس لها أي مستقبل عاطفي، أو حتى فني، مع النحات أوغست رودان الذي كانت بنت حياتها انطلاقاً من ارتباطاتها به، ظهر فجأة في حياتها، الموسيقي الذي يكبرها بسنتين، كلود ديبوسي الذي كان بدأ يحقق صعوداً كبيراً في باريس فكانت تجربتها معه أعقد من التجربة الأولى
نعرف طبعاً أن النحاتة الفرنسية كاميل شقيقة الشاعر والدبلوماسي بول كلوديل رحلت عن عالمنا في مصح عقلي في عام 1943، وهي تلعن في السر وفي العلن النحات أوغست رودان، الذي كانت تتهمه بالغدر بها والتخلي عنها منذ وقت مبكر على رغم أنها أحبته حتى الأعماق.
ونعرف طبعاً، واستناداً إلى الفيلم الفرنسي الذي حقق قبل ربع قرن من الآن وحكى بالتحديد حكاية كاميل مع كبير نحاتي القرن الـ20 في فرنسا، أن الهوى الذي قام بينهما، إلى الضغوط العائلية التي مورست على كاميل، كانت في خلفية الجنون الذي أودى بها في نهاية الأمر إلى جحيمها، وجعلها تبدو ضحية للغرام بأكثر مما تبدو فنانة نحاتة عن حق وحقيق.
ومن المهم أن نلتفت هنا، وبعد أن خبت أهمية الفيلم، ولا سيما منذ عام 2017، إذ بات لكاميل كلوديل متحف خاص بها، نلتفت إلى حياتها بصورة أكثر شمولاً مما يوحي به الفيلم الذي جعل تلك الحياة منحصرة في العلاقة مع النحات الكبير، وذلك انطلاقاً من سؤال بدهي هو: في نهاية الأمر هل كان لكاميل كلوديل حياة خاصة خارج العلاقة مع رودان؟ أجل كانت لها حياة. بل هي تمكنت من أن تبني ولو لحقبة قصيرة، نوعاً من حياة مستقلة عن حياة “حبيبها اللامبالي” ذاك، بحسب تعبيرها، كما سنرى بعد سطور.
كلود ديبوسي (الموسوعة البريطانية)
تقاطع مع موسيقي المرحلة
فعند تسعينيات القرن الـ19، وفي وقت بات فيه من المحتم على كاميل كلوديل أن تفهم أن ليس لها أي مستقبل عاطفي، أو حتى فني، مع ذاك الذي كانت بنت حياتها انطلاقاً من ارتباطاتها به، ظهر فجأة في حياتها، الموسيقي الذي يكبرها بسنتين، كلود ديبوسي الذي كان بدأ يحقق صعوداً كبيراً في باريس تلك المرحلة. وهي ما أن تعرفت عليه والتقطت مكامن فنه، حتى بدأت تشعر، كما يبدو، أنه يمكن أن يشكل في حياتها بديلاً عما كانه أوغست رودان، وبالتالي أغرمت به، ولكن متمسكة بما لم تكن تدرك أنه حبال هواء. أو ذلك في الأقل ما افترضه الباحث جاك كاسار، الذي يعتبر في الحياة الأدبية الفرنسية واحداً من أبرز المتضلعين في حياة وعمل بول كلوديل.
فكاسار انطلاقاً من إحاطته بكل الملفات المتعلقة بشقيق كاميل هذه، انصرف، ما إن خفت الضجيج من حول الفيلم الذي ذكرناه، إلى الاشتغال على ملفات تتعلق بحياة كاميل لينتج في نهاية الأمر نوعاً من ملف ضخم عنونه “ملف كاميل كلوديل”، خصص الجزء الأكبر من صفحاته للتأريخ “للعلاقة” التي قامت ولو لردح من الزمن، بين ديبوسي والمرأة الجريحة. ويبدو أن ما حرك كاسار إنما كان اهتمامه بالتأثير الذي كان لمأساة كاميل في حياة أخيها وأدبه، وبالتالي فإن العمل الذي قام به الباحث نسف من الأساس كل ذلك الصمت الذي أحاطته العائلة بكل ما يتعلق بابنتها الضالة وساد منذ أودعت شابة في المصح العقلي. ومن هنا تمكن كاسار من جمع مئات الوثائق المهمة والشهادات المتعلقة بكاميل، ومن بينها رسائل وكتابات كانت حتى ذلك الحين مخبوءة. ولقد أعطى الباحث أهمية خاصة لعلاقة كان يجري حديث هامس عنها، يفترض أنها قامت بين كاميل وديبوسي، غير أنه توصل في نهاية الأمر إلى أنه لئن كان ثمة اهتمام جدي من كاميل بديبوسي، فإن هذا الأخير اهتم في الحقيقة بفنها بأكثر مما فعل أي شخص آخر، بل حتى ثمة إشارات في الملف بنيت انطلاقاً من مؤشرات معينة تفترض أن عملين موسيقيين كبيرين من أعمال ديبوسي استلهمهما الفنان من منحوتات لكاميل كلوديل، وهما بالتحديد “تمهيد لبعد ظهر حيواني” و”ضوء القمر”. مما يعني بكلمات أخرى أن ديبوسي تعامل مع كاميل كملهمة له وحالة جديرة بالدراسة بأكثر كثيراً مما تعامل معها كامرأة يمكنه أن يغرم بها. ولعل ذلك شكل خيبة جديدة لكاميل وجرحاً متجدداً، ولا سيما أن ديبوسي مات خلال الحرب العالمية الأولى من دون أن يعلم أن كاميل كانت لا تزال على قيد الحياة وسجينة في مصح الأمراض العقلية.
كتاب جاك كاسار عن كلوديل (أمازون)
حساسيتان لا تلتقيان
والحقيقة أن أهم ما يتعلق بما وصل إليه الباحث كاسار في الملف، هو أنه لم يكن من الطبيعي لشخصيتي كاميل كلوديل وكلود ديبوسي أن تلتقيا في حكاية غرام واحدة، على رغم أن سنهما المتقاربة كانت تتيح ذلك، لكن ديبوسي كان أكثر انطواء على نفسه من أن يسمح لأية شخصية نسائية أن تهيمن على حياته، ولا سيما أنه كان يعرف كثيراً عن هيام كاميل برودان والحالة العقلية التي أودى بها إليها ذلك الهيام. وكان، وهو الأناني بدوره إلى حد الإفراط، يعرف تماماً أن كاميل إنما تحاول أن تجعل منه بديلاً لحبها الضائع. ومن هنا اكتفى باستلهام شخصيتها وأعمالها التي وجدها تتلاءم مع توجهاته الفنية الجديدة والتجديدية، من دون أن يهتم بشخصيتها نفسها، ومن دون أن يحاول أن يوحي إليها بأن في إمكانهما أن يكونا معاً.
ويبدو أنها هي من ناحيتها أحبت مرة أن تعتقد أن “الفنان العزيز كلود” لا يريد الارتباط بها خوفاً من سطوة رودان وغيرته عليها، وأن توحي مرة أخرى بأن أخاها الأصغر بول هو الذي ردعه عن ذلك، غير أن “ملف كاميل كلوديل” يفيد بكل وضوح أن لا هذا كان صحيحاً ولا ذاك. “كل ما في الأمر أن ديبوسي حتى وإن كان قد أدرك منذ تعرفه على كاميل كلوديل وعاين منحوتاتها، أن في إمكانه أن يجد لديها، حقيقة، أبعاداً فنية من النمط الذي يحلم به ويريحه، بل يؤكد له صواب اختياراته الفنية التحديثية الخاصة به، فإنه وجد أن التشابه في المزاج الفني بينهما لا يخلق بينهما تكاملاً يمكنه أن ينعكس على حياته الإبداعية، وبالتالي على حياته بالمعنى الإنساني للكلمة، بل تقاطعات في المزاج يمكنها أن توصلهما إلى التنافر على الصعيد الإنساني، ومن هنا فضل الهرب باكراً على رغم النجاح الهائل الذي تحقق له في العملين اللذين استلهمهما منها.
ديبوسي يخوض الحرب العالمية الأولى بموسيقى وطنية
أريستيد مايول جدّد فن النحت ساعياً إلى جمالية المستقبل
عمل كبير ولكن
والحقيقة أن عملاً كبيراً كان ذاك الذي حققه الباحث كاسار من خلال اشتغاله على حياة كاميل كلوديل والعلاقة التي “لم تكتمل” بينها وبين ديبوسي، غير أن هذا العمل لم يؤد إلى نتيجة حقيقية لا بالنسبة إلى النظرة العامة إلى كاميل ولا بالنسبة إلى ما يتعلق بتأثر هذه الأخيرة في الفن الموسيقي الكبير الذي أنتجه ديبوسي بصورة عامة. وذلك بالتحديد لأن الفيلم كان أطر حياة كاميل تأطيراً نهائياً، وفي الأقل في الذاكرة الشعبية بحيث حتى ولو أن مكاناً ما سيكون في تلك الحياة لكلود ديبوسي فإنه لن يتجاوز كونه مكان الدخيل الذي يدخل على الحكاية من خارجها، حتى وإن كان يمكننا أن نقول، في نهاية الأمر إنه من الأسهل علينا أن نترصد وجود كاميل كلوديل في فن ديبوسي بأكثر كثيراً من قدرتنا على ترصد تأثيرات تلك المرأة الرائعة بكل المقاييس، في إبداعات رودان الذي، إلى جانب تاريخه الفني الخاص وهو تاريخ مجيد ورائع بالمقاييس كافة، دخل التاريخ الفني العام والأقل مجداً على أية حال، بوصفه حبيبها الأبدي. وتلكم هي على أية حال، قوة الفن وقوة الإشاعة، إذ يتضافران معاً لتكوين ذاكرة عامة تظل رافضة لأي تعديلات تطرأ عليها ولو باسم واقع تاريخي لا يحب كثر أن يتمسكوا به، على رغم أنهم في معظم الأحيان يعرفون تماماً أنه الحقيقة.